والثانية: الإيمان بكتابته لعلمه، وبهذا يتبين أنه ليس بين العلم والكتابة معارضة لعمل الإنسان؛ لأن الله جل وعلا علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا ويعمل كذا وكذا باختياره وقدرته فكتب علمه، فالكتابة ليست مرغمة للإنسان، كما يتوهمه من يعارض الرب جل وعلا، أو من يبرر كفره ومعصيته وعناده، فلا حجة لمحتج في ذلك، أما ما جاء في الصحيحين، في قصة محاجة موسى وآدم عليهما السلام، قال صلى الله عليه وسلم:(قال موسى: يا ربي! أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة ونفسه، فأراه الله آدم، فقال له موسى: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك بلا واسطة، كم وجدت في التوراة بين خلقي وبين قول الله جل وعلا:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:١٢١] ؟ قال: قبل أن تخلق أربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى) يذكر ذلك ثلاثاً، يعني: غلبه بالحجة.
احتج بهذا بعض المبطلين وقالوا: إن القدر حجة للإنسان على عمله، وهذا باطل؛ وذلك أن موسى لا يمكن أن يكون لام آدم على الذنب الذي تاب منه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولومه معصية، وموسى عليه السلام لا يمكن أن يفعل هذا، وإنما لامه على المصيبة، والمصيبة هي التي وقعت فيه وفي الناس، وهي الخروج من الجنة، والمصيبة ليست فعل آدم، وإنما كتبت عليه؛ فلهذا قال: إن هذا شيء مكتوب عليه، أما الفاعل فلا يجوز أن يحتج بالقدر على فعله، بل يجب عليه أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من فعلي، أما أن يبرر لنفسه ويحتج بالقدر فهذا فعل الشيطان، وبهذا يتبين لنا أن معنى الحديث غير ما ذهب إليه هؤلاء، وهذا يجب أن يفهم لئلا يلتبس الأمر على المسلم.
وبعض العلماء يقول: القدر يحتج به على المصائب لا على المعائب، يعني: إذا وقع بالإنسان مصيبة لا يمكن استدراكها ولا يمكن رفعها، فمثل هذا يقول: الحمد لله هذا قدره الله علي، أما العيب والذنب فالواجب التوبة والإقلاع منه والاستغفار منه، ولا يحتج الإنسان عليه بالقدر.
قوله:(فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) يعني: هذا معنى الإيمان بالقدر، يؤمن بأن ما أصابه لا يمكن أن يخطئه، وما أخطأه لا يمكن أن يصيبه، وكلمة: لو فعلت كذا لكان كذا وكذا، هذه جاء اللوم عليها في الأقدار، وهي من عمل الشيطان ولا يجوز قولها؛ لأنها خطأ محض، فالذي يقع لا يمكن أن يتغير، الواقع لا يمكن أن يتغير، قد علمه الله جل وعلا ووقع وإن كان هناك أسباب؛ لأن الله جل وعلا كتب الأسباب والمسببات، وكل شيء له سبب، ولكن لا يقع إلا ما كتبه الله وعلم أنه يقع.
قوله:(وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) قوله: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن الأمور فرغ منها وانتهت، ولا يقع إلا ما كتبه الله وأراده، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحج:٧٠] لأن كل شيء بقدرته جل وعلا، وقال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحديد:٢٢] فقوله: (أن نبرأها) إما أن يعود الضمير على الأرض، أو يعود على النفس التي أصيبت، وكلاهما صحيح، والمعنى: قبل وجودها، والبرء: هو الخلق والتمييز.