للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[يوم القيامة وإرهاصاته]

(ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى) : قوله: (إلى أن تقوم القيامة الكبرى) يدلنا على أن هناك قيامتين: قيامة صغرى وقيامة كبرى، وهو كذلك، أما القيامة الصغرى فهي الموت، وكل إنسان بخاصته إذا مات فقد قامت قيامته الصغرى، أما الكبرى فهي العامة التي هي النفخ في الصور.

والصواب أن النفخ في الصور نفختان فقط وليست ثلاثاً، فأما قوله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:٨٧] فهذه النفخة المقصود بها نفخة الصعق التي ذكرت في قوله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] ، وهذه الآية واضحة في أن النفخ في الصور يكون مرتين فقط.

والصعق معناه الفزع، فيفزعون أولاً ثم يصعقون بعد ذلك، ولهذا جاء في الحديث أن أول من يسمع النفخ في الصور راعيان يلوطان حوضيهما، وجاء أنه ينفخ في الصور والرجلان قد نشرا ثوباً ليتبايعاه فيبقى بين يديهما، وأن الرجل يعمل عملاً ثم يبقى عمله بين يديه إذا سمع ذلك، فمعنى النفخ في الصور أنه أولاً يموت من كان حياً، وهذه هي النفخة الأولى، وقد استثنى الله جل وعلا من استثنى، والله أعلم بهم.

وقد اختلف العلماء فيهم، ففي قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] من العلماء من قال: المستثنى هن الحور العين اللاتي في الجنة؛ لأن ما في الجنة لا يموت.

ومنهم من قال: هم الأنبياء والشهداء.

ولكن الأنبياء والشهداء قد ماتوا فكيف يستثنون؟ لأن النفخة الأولى في الصور لا يحس بها الأموات، إنما هي لمن كان حياً، وهذه لها مقدمات هائلة مثل تشقق الأرض وزوال الجبال حتى تصير كالعهن المنفوش، فزلزلة الأرض كما في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:١] مقدمة لخروج الأثقال، والأثقال هي من كان في بطنها من الأموات، فإنهم يخرجون، ولكن في النفخة الثانية.

ومما يدل على ذلك ويؤكده أنه ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون) ، فلو كانت ثلاثاً لقال: بين النفخة الأولى والثانية، أو: بين النفخة الثانية والثالثة.

ولكن قال: (بين النفختين أربعون) قيل لـ أبي هريرة: أربعون سنة؟ قال: أبيت.

قيل: أربعون شهراً؟ قال: أبيت.

قيل: أربعون يوماً؟ قال: أبيت.

يعني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أربعون فقط، ولم يذكر التمييز هل هو سنة أو يوم أو شهر، والظاهر أنه أربعون سنة بين النفخة الأولى والثانية، والله أعلم.

وقد اختار بعض العلماء مثل ابن كثير رحمه الله وغيره من العلماء أنها ثلاث؛ لأن الله ذكر الثلاث بأوصاف مختلفة، قال في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:٨٧] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] ، وهناك حديث صريح وهو حديث أبي هريرة الطويل أنه ينفخ في الصور ثلاث مرات، فتكون النفخة الأولى نفخة للفزع، والنفخة الثانية للصعق، والثالثة نفخة البعث، ولكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة، بل هو روايات مزعومة بعضها من أقوال الذين لا يجوز أن يثبت بأسانيدهم ورواياتهم حكم، مثل الكلبي وغيره، فهذا الحديث لا يعتمد عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>