وفي هذه الآيات أدلة واضحة على أن الله جل وعلا في العلو، وصفة العلو صفة ذاتية، ودلائله عقلية وسمعية وفطرية.
أما الأدلة السمعية فهذا شيء منها، وإلا فهي كثيرة جداً، حتى قال ابن القيم: إنها تزيد على ألف دليل، يعني: من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن كثرة الأدلة وتنوعها لا تفيد إلا من يريد الحق، أما الذي أشرب قلبه بالباطل وأحبه، فإنه لا يزداد بذلك إلا قيام الحجة عليه.
أما العقلية فذكرنا نوعاً منها، وأنواعها كثيرة أيضاً.
وأما الفطرية فقد فطر الله جل وعلا جميع خلقه أنهم إذا سألوا ربهم يمدون أيديهم إلى السماء، ويجدون في أنفسهم دافعاً يدفعهم إلى أن يطلبوا ربهم من فوق، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ولا تحت، وإنما يسألون ربهم من فوق، وهذا موجود عند كل إنسان إذا اضطر وسأل ربه أنه يسأله من العلو، ولهذا لما كان أحد أئمة الأشاعرة يقرر هذا المبدأ -يعني: أن الله ليس فوق- في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الحرمين عبد الملك الجويني، وكان يقول للناس وهو على كرسي: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان.
فقال له رجل: أيها الشيخ! دعنا من هذه الأمور التي تذكر، وأخبرني عن ضرورة أجدها في نفسي أنا وغيري وأنت وكل الخلق، إذا قلت: يا الله! أجد دافعاً يدفعني من الداخل أني أطلب ربي من فوق، كيف أصرف هذه الضرورة؟ كيف أمنعها؟ ما أستطيع، فوضع يده على رأسه ثم نزل من على الكرسي وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل، ما أدري ماذا أقول؟! وما أدري ماذا أعتقد؟! لماذا؟ لأنه بنى عقيدته على غير أساس، بناها على هذيان مثل هذا الهذيان: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان؛ وترك النصوص الجلية التي تتفق مع الفطر ومع العقل، فهذا دليل الفطرة، وقد قال الله جل وعلا:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}[الأعراف:١٧٢-١٧٣] ، وتفسير هذه الآية الذي عليه المحققون: أن هذا الميثاق هو الفطرة التي فطروا عليها، فإن الله فطرهم على معرفته، وهذا دليل على وجوب عبادتهم لله؛ ولهذا علل ذلك بشيئين: أحدهما: ألا يغفلوا عنه، وهذا موجود كامن في النفوس لا أحد يغفل عنه، أي: الفطرة.
الثاني: ألا يتبعوا آباءهم وغيرهم مقلدين لهم؛ لأن الفطرة موجودة في كل واحد على أن الله ربه، وإذا كان ربه الذي خلقه وهو فقير إليه وجب أن يعبد ربه.