وقوله عن فرعون -جازاه الله بما يستحق- يخاطب وزيره:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً}[غافر:٣٦] وفرعون: اسم لكل من ملك مصر كافراً، كما أن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة كافراً، وكسرى اسم لمن ملك الفرس، وقيصر اسم لمن ملك الروم من الكفار، وكل هذا لا يكون علماً على رجل واحد، بل كل من كان ملكاً منهم يكون له هذا الاسم؛ ولهذا اختلف في اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى؛ لكثرة الفراعنة.
فقوله:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}[غافر:٣٦-٣٧] يدلنا صراحة على أن موسى عليه السلام أخبر فرعون بأن الله في السماء، والآية صريحة في ذلك، فلهذا أمر أن يبنى له بنيان؛ لتوهيم الناس وإضلالهم والتلبيس عليهم بأنه يستطيع أن يصعد في هذا البناء وينظر إلى ما أخبره به موسى عليه السلام؛ ولهذا قال:((وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً)) يعني: في خبره الذي قال: إن الله في السماء.
فالدليل في هذا من جهتين: الجهة الأولى: أن موسى أخبر بذلك.
الثاني: أن هذا عام جاءت به الرسل، وهذا في الواقع تضافرت عليه أدلة الوحي، وأدلة العقل، وأدلة الفطرة، فكل هذه الأدلة شاهدة عليه.
فمن أدلة العقل أن يقال: من المعلوم قطعاً أن الخالق غير المخلوق، ومن لم يعتقد هذا فهو كافر بالله جل وعلا، فإذا كان المخلوق له ذات معينة، والخالق له كذلك ذات معينة تتعالى وتتقدس أن تختلط بالمخلوق، فالمخلوق وجد بعد أن لم يكن.
فيقال لهؤلاء الضلال: حينما خلق الله جل وعلا الخلق أين خلق الخلق؟ هل خلقهم في ذاته أي: داخل ذاته؟ تعالى الله وتقدس، فإن قالوا ذلك فقد كفروا؛ لأنهم لم يميزوا بين خالق ومخلوق، وإن قالوا: خلقهم منفصلين عنه بائنين عنه، فيقال: هل يجوز أن يكون المخلوق أعلى من الخالق؟ لا يجوز قطعاً.
إذاً: لابد من القول: بأن الله عال على خلقه، وأن خلقه تحته، وأنه فوقهم قاهر لهم، هذا من ناحية العقل والنظر، ونحن لا نصير إلى العقل إذا كان العقل مخالفاً للوحي، وإنما نقول به إذا كان موافقاً له ومتفقاً معه، والوحي لا يأتي بمخالفة العقول السليمة الصحيحة، ولكن يأتي بما تحار فيه العقول ولا تدركه؛ لأن العقول لها حدود لا تستطيع أن تصل إلى كثير من الأشياء التي تكون بقدرة الله جل وعلا.