[قوله تعالى: (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام)]
فقوله: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) : الخلق: هو الإيجاد والإظهار والإبراز على أمر لم يسبق له مثيل، وهذا هو الخلق الحقيقي: وهو إيجاد الشيء من العدم، والله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، والظاهر أنها أيام كأيامنا هذه، هذا هو الظاهر، أما الأقوال التي تروى عن بعض المفسرين: أن كل يوم كألف سنة ونحو ذلك فليس لهم فيه دليل، ولكن قد يرد سؤال وهو: إذا كان الله خلق السماوات والأرض قبل وجود الشمس ودورانها، فكيف عرفت هذه الأيام؟ لأن الأيام ما عرفت حتى وجدت الشمس، فصارت تسير مع الأرض في فلكها، وهو شيء مقدر لا يختلف، بل محدد تحديداً دقيقاً في جميع السنة، فكل يوم وليلة أربع وعشرون ساعة لا يزيد ولا ينقص.
وإن كان كما قال الله جل وعلا: ((يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ)) ، أي: يزيد أحدهما على الآخر فينقص الآخر، ولكن لا يعدو الليل والنهار أربعاً وعشرين ساعة، هذا في وسط الأرض.
أما في أطراف الأرض، فهذا لا عبرة فيه؛ لأن أطراف الأرض قد تطلع الشمس عليها وقتاً طويلاً، وقد لا يكون عندهم ليل في القطب؛ لأن الشمس لا تغيب عن الأرض إذ أن الأرض، لا أثر لها في ذلك، فلا يعتبر بمثل هذا، وإنما يعتبر الوسط الذي نحن فيه، وهو الذي خاطبنا الله جل وعلا به.
فالظاهر: أنها أيام كأيامنا هذه؛ لأن هذا هو الظاهر من قوله (في ستة أيام) ، وقد علم أن أول هذه الأيام الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وهو الذي اجتمع فيه الخلق، وفي آخر ساعة منه خلق آدم، وفيه أيضاً تقوم الساعة كما صحت الأحاديث في ذلك.
أما ما جاء في صحيح مسلم: (أن الله جل وعلا خلق يوم الأحد كذا وخلق يوم الإثنين كذا ويوم الثلاثاء كذا إلى أن قال: وخلق التربة يوم السبت) ، فهذا غير صحيح، وهو من الأحاديث التي يعلم أنها غير صحيحة، ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي خطأ من بعض الرواة، والخطأ في صحيح مسلم وصحيح البخاري هو في كلمات يسيرة فقط، مثل هذا الحديث، وكل كتاب غير كتاب الله ما يخلو من الخطأ، ولكن إذا كان الخطأ معدودا ًومعروفاً فيكفي ذلك في صحته، ونبل صاحبه كما هو معلوم.
وقوله: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ)) : الرب: هو المالك المتصرف، ولا يجوز إطلاق الرب -بالألف واللام- إلا على الله.
أما لفظ (رب) غير مضاف فلا يجوز إطلاقه أيضاً إلا على الله، أما إذا أضيف فيجوز أن يطلق على المخلوق، تقول: رب الكتاب، رب الدار، رب الدابة، يعني: صاحبها، والرب هنا بمعنى: المالك المتصرف، فهو الذي يملك هذا الكتاب ويتصرف فيه، وهو الذي يملك هذه الدار ويتصرف فيها بالبيع والشراء والسكنى والإيجار وغير ذلك، ولكن لا يجوز إضافة الرب للعاقل ويقصد به المخلوق، تقول: رب الغلام، رب الجارية، رب المرأة، رب الرجل وما أشبه ذلك، هذا لا يجوز أن يقصد به مخلوق؛ لأن الرب قد يطلق لمعنى المعبود وهو دليل على العبادة، بل تلزم منه، فالعبادة والربوبية متلازمتان، ولهذا منع ذلك، فلا يجوز في هذا الأمر.
فإذاً: يكون إطلاقه على غير الله جل وعلا فيما إذا أضيف إلى غير العاقل، أما إذا أضيف للعاقل فلا يجوز إطلاقه إلا على الله، وإذا اقترنت به (أل) لا يجوز إطلاقه إلا على الله تعالى الله وتقدس، وهذا كله صيانة وحماية للتوحيد، ولأسماء الله جل وعلا وصفاته أن يشترك في معانيها وحقوق الله مخلوق.
((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ)) ، ومن المعلوم في اللغة: الفرق بين الرب وبين الله، كما في مثل هذه الآية، فإنه قال: ((إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ)) ، فدل على الفرق، ولهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، ذو الألوهية: يعني: صاحب الألوهية الذي يتأله ويعبد، وأما الرب: فهو المالك المتصرف الخالق الرازق المدبر، وبهذا يستدل على الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد العبادة، وهذا فرق واضح.
{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤] ، (ثم) : هذه للترتيب مع التراخي، ولا تحتمل إلا هذا، ولهذا جاءت مطردة في جميع مواردها التي ذكرها في السبعة مواضع، بلفظ: (ثم) المرتب على الخلق.