[وسطية الفرقة الناجية بين أهل التعطيل وأهل التمثيل]
(فهم وسطٌ في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة) : الجهمية: نسبةً إلى الجهم بن صفوان الترمذي، والجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب من الجعد بن درهم؛ لأنه هو أول من تكلم به ونشره، وقد أخذه خالد بن عبد الله القسري أحد قواد بني أمية في آخر عهدهم، لما انتشر ذلك عنه وسمعه، وشهد عليه، فاستشار العلماء في وقته، فأشاروا عليه بقتله، فجاء به مقيداً بالحديد وطلب منه الرجوع ولكنه لم يرجع، وفي يوم عيد الأضحى، وكانت العادة المشروعة عند أهل ذلك الوقت وبعدهم أيضاً أن القائد هو الذي يتولى الصلاة والخطبة؛ لأنه لا يولى إذا كان جاهلاً، وإنما يولى القيادة إذا كان عالماً عارفاً.
فجاء به وصار يخطب الناس فحثهم على الأضحية، وقال في آخر خطبته: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل وذبحه تحت المنبر الذي كان يخطب عليه، متقرباً به إلى الله جل وعلا، فشكره العلماء على هذا الصنيع، وقد اتفقوا على أن قتله واجب ليستراح من شره.
وكان أخذ هذا المذهب الخبيث من أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان أخذه من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر، ولبيد بن الأعصم هذا يقولون: إنه أخذه عن يهوديٍ من يهود اليمن، فهذه سلسلة يهودية جاء بها اليهود ليفسدوا هذا الدين كما أفسدوا دين النصارى، فهم دخلوه نفاقاً وأفسدوه كما هو معروفٌ، وهذا صنع نفس الطريقة، فدخل الإسلام هو وغيره لا حباً فيه، ولكن ليفسدوه، فصار كلامه في رب العالمين، وأنه لا يحِب ولا يحَب، وليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان، ولا يجري عليه زمان إلى آخر الهذيان الذي يقولونه، وكل هذا إذا سمعه الإنسان أو تصوره علم أنهم أهل التعطيل الذين ينكرون وجود الله، فهي أمورٌ متخيلة في أذهانهم فقط إذا كانوا يؤمنون بشيء، والواقع أنهم لا يؤمنون بشيء! أما أهل التمثيل والتشبيه فهم الذين يشبهون الله جل وعلا بخلقه، والتشبيه الذي عندهم يقولون: إن يد الله كأيدي الخلق، وسمعه كسمع الخلق، وعلمه كعلم الخلق، وما أشبه ذلك، فهؤلاء ليس لهم فرقةٌ معينة لها إمامٌ أو علماء، وليس لها كتب باسم المشبهة، وإنما التشبيه نسبي، كلٌ يرمي من خالفه في إثبات ما يعتقد أنه لا يجوز إثباته بأنه مشبه، ووجد أفراد قالوا بالتشبيه، وأثبتوا إثباتاتٍ غلوا فيها وتجاوزوا الحد، فنسبوا إلى التشبيه، أما أن يكون هناك طائفة مثل طائفة الجهمية بعدما قتل الجهم بن صفوان وقد أخذ عنه بشر المريسي، وبشر المريسي تلميذه أحمد بن أبي دؤاد، ثم تشتتوا إلى عشرين فرقة أو أكثر، وكل فرقةٍ تضلل الأخرى كعادة أهل البدع.
أما المشبهة فليس لهم فرق معينة، وليس لهم كتب؛ مما يدل على أنه أمرٌ باطل، فالتشبيه باطلٌ لا أحد يقول به إلا أفراد معينون، وعرفوا بأنهم مشكوكٌ في أمرهم، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يصوم، ويشربون الخمور، ويفعلون المنكرات، فمثل هؤلاء لابد أن يعلم أنهم ليس قولهم معتبراً، ولا أنهم أئمة في هذا الشيء، بل هم ضلالٌ ضلوا، وقالوا ما قالوه ليضلوا، لأنهم دخلوا الإسلام لا رغبة ًفيه، ولكن نكايةً فيه، وطلباً لتفرقة أهله فيه.
وسبق أن التشبيه ينقسم إلى قسمين: تشبيهٌ للخالق جل وعلا بالمخلوق، بأن يقول مثلاً: إن وجه الله كوجوه خلقه، ويده كيد خلقه، ورجله كأرجل خلقه وهكذا، وهذا في الأمة قليلٌ جداً، وقد لا يوجد، وبعض الذين ينسب إليهم هذا كذباً عليهم ما قالوا ذلك، والمشهور أن الكرامية هم الذين يرمون بالتشبيه، وليس هذا قول الكرامية، وإنما ابن كرام لما صار يجادل المعتزلة المعطلة، قالوا له: في قواعدهم واصطلاحاتهم: إن الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بما هو جسم، والمعاني تقوم إلا بالأجسام، فأنت إذا أثبت الصفات يلزمك أن تقول: إن الله جسمٌ، فقال: إذا كانت الصفات لا تقوم إلا بأجسام فأنا ألتزم ذلك، وأقول: إن الله جسمٌ ولكن لا كالأجسام، فلما التزم هذا وقال به سموه مشبهاً، فقالوا: إنه مشبه لأجل ذلك.
ثم اشتهرت نسبة التشبيه إليه وأتباعه، ومعلوم أن هذا ليس كما مثلنا، وكما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن التشبيه أن يقول: يدٌ كيدي، ووجهٌ كوجهي، وكذلك قال غيره من الأئمة، فإنهم لا يقولون هذا، وما ذكر عن مقاتل بن سليمان أنه يقول ذلك، فهذا كذبٌ عليه لم يثبت، وإنما يقوله أعداؤه، وكتبه ليس فيها شيءٌ من ذلك.
القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه المخلوق بالخالق، أي: عكس الأول، بأن يشبه المخلوق بالخالق، وهذا كثيرٌ جداً، في قديم الزمان وحديثه، الكثير من الناس يلحق المخلوق بالرب جل وعلا، فسموا مثلاً أصنامهم آلهة وأرباباً، وصاروا يطلبون منها ما يطلبونه من الله جل وعلا وهذا من التشبيه، وهو الشرك الأكبر، وكذلك الذين يدعون الأولياء والأموات شبهوهم برب العالمين، بأنهم يعلمون الغيب، ويعلمون ما في القلوب، وأنهم يقدرون على أن يجيبوهم في طلباتهم، وكذلك يقدرون على أن ينجوهم من عذاب الله، وأن يتوسطوا لهم لمطلوباتهم، أو يستطيعون أن يقوموا بها استقلالاً، فهذا تشبيهٌ لهم برب العالمين جل وعلا، وهو من أعظم التشبيه، ومن أعظم الظلم، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه.