للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وسطية الفرقة الناجية بين الجبرية والقدرية]

وقوله: (وهم وسطٌ في باب أفعال الله تعالى بين الجبرية والقدرية) : يعني: أن أهل السنة وسطٌ في أفعال الله وأفعال عباده، بين الجبرية والقدرية؛ لأن الجبرية والقدرية فرقتان متقابلتان، الجبرية هم الجهمية ومن تابعهم، ولكن الجبرية ينقسمون إلى قسمين كما هو معلوم.

أولاً: الجبرية، هم الذين يقولون: إن العبد مجبورٌ على ما يفعله، وما يأتي به، وليس له اختيارٌ في ذلك والجبر: هو القهر والقسر على الشيء من غير إرادةٍ ومن غير مشيئة له، فعندهم أن العباد لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيروا مما هم فيه شيئاً، وإنما الأفعال لله جل وعلا، فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقاً في جميع أفعالهم، فإذا آمن أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فعله إلا على سبيل المجاز، وإلا فهو فعل الله جل وعلا، لأنه لا يستطيع أن يغير شيئاً من ذلك، ولا يقدر عليه.

وهذا المذهب من أخبث المذاهب وأبطلها، وهذا لا يستقيم عليه دين ولا دنيا، لا في ملة المؤمنين، ولا في ملة الكافرين، فهو من أخبث المذاهب على الإطلاق.

وقابلهم القدرية، وسموا قدرية لأنهم نفوا القدر، وهؤلاء أثبتوه وبالغوا في إثباته، فقد أخرجوا أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة من الله، فضلاً عن أن تكون مفعولةً له.

بل هي خلق للعباد أنفسهم وبتصرفهم والله لا يقدر على أن يخلقها فيه، فأثبتوا مع الله خالقين، وهذا شرك في الربوبية، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد عندما يذكره المؤلف.

ثم الجبرية فريقان: فريقٌ غالٍ جبرية محضة، فنفوا أن يكون للعبد أي اختيار أو مقدرة على الأفعال التي يفعلها، وفريقٌ آخر قالوا: إن الإيمان هو التصديق مع القول -قول اللسان- ولكن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، إلا أن الله جل وعلا يعاقب على المعاصي، ويثيب على الطاعات، فإذا ترك الإنسان أمراً واجباً فإن الله يعاقبه.

وقالوا: إن أهل الذنوب والكبائر إذا دخلوا النار من الموحدين فإنهم تنفعهم الشفاعة، ويخرجون بها، فالخلاف عندهم في إخراج الأعمال أن تكون داخلة في مسمى الإيمان فقط، ولهذا كثيرٌ من أهل السنة يقولون: هذا خلاف لفظي، وليس معنوياً، وهؤلاء سموهم مرجئة الفقهاء أو مرجئة أهل السنة، هكذا قالوا، فليسوا كأولئك ولا يجوز إلحاقهم بأولئك؛ لأن الإرجاء الذي هو الجبر هو أن يقال في الإيمان: إنه مجرد معرفة القلب، وهؤلاء قالوا: هو تصديقه، وفرقٌ بين هذا وهذا، ولهذا أولئك قيل لهم: يلزمكم أن يكون الشيطان مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه جل وعلا، وأنتم لا تعرفون ربكم؛ لأن الذي تصفونه ليس هو رب العالمين، فأهل السنة وسطٌ بين هؤلاء وهؤلاء، في أفعال الله وفي أفعال الخلق، أما أفعال الله جل وعلا فهي في أحكامه وجزائه، ووعده ووعيده، وسيأتي الكلام في ذلك، وأما أفعال العباد فهي ما يترتب عليها من الجزاء والعقاب.

<<  <  ج: ص:  >  >>