والقرب ينقسم إلى قسمين كما سيأتي: القسم الأول: قرب يكون للداعي والسائل كقوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي}[البقرة:١٨٦] ، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الذي في الصحيحين لما رفعوا أصواتهم في الدعاء والذكر، قال:(أربعوا على أنفسكم -يعني: أرفقوا بأنفسكم- إنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً؛ إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) ، فهذا قرب للداعي والسائل، ولكن مع قربه إليهم هو مستوٍ على عرشه وعالٍ على خلقه جميعاً، ويكون قربه قرباً يليق به، وهو قرب على حقيقته، وعلى ظاهره، ولكنه لا ينافي علوه؛ لأن هذا من خصائص الله سبحانه.
والقسم الثاني: هو مثل المعظم الذي يعظم نفسه أو يكون له خدم وعبيد يمتثلون أمره؛ فإنه يقول: فعلنا، ونحن نفعل، كما يقول الرئيس: نحن نأمر بكذا وكذا، وإن كان المنفذ غيره، والكاتب غيره، والمبلغ غيره، فإذا قال الله جل وعلا:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق:١٦] ، وقال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}[الواقعة:٨٥] وما أشبه ذلك، فهذا يصح أن يكون أمر ملائكته بذلك فامتثلوا أمره، ونفذوا ما أمرهم به، فأضاف ذلك إلى نفسه، وهذا معلوم في لغة العرب ومعروف.
ولا يكون منافياً أيضاً لما سبق، بل يحمل على ظاهره، وليس ذلك تأويلاً؛ لأننا إذا تبين لنا أن مراد المتكلم هو الظاهر فهذا لا يسمى تأويلاً، وبهذا يعلم أن معية الله ليست منافية لعلوه واستوائه، كما أن قربه لا يخالف علوه واستواءه، فهو قريب من داعيه، وكذلك قريب من السائلين والتائبين والمنكسرة قلوبهم وهو على عرشه، ومثل ذلك مجيئه يوم القيامة كما قال سبحانه:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[البقرة:٢١٠] ، وقال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}[الفجر:٢٢] ، فإنه سبحانه وتعالى يوم القيامة يجيء إلى الأرض للفصل بين عباده، ولكن يجيء وهو على عرشه عالٍ على خلقه لا يمكن أن يكون شيء فوقه؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، والأشياء كلها -كالسماوات والأرض- بالنسبة إليه صغيرة، ولهذا يقبضها تعالى بيده ويطويها، ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وكل الخلق الذين في السماء وفي الأرض، يكونون في قبضته بيمينه تعالى وتقدس، كما قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:٦٧] روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: السماوات والأرض كلها مطوية بيمينه وشماله فارغة وإنما يستعين بشماله من كانت يمينه مشغولة.
هكذا قال حبر الأمة.
فالمقصود: أنه يجب أن يعلم عظمة الله، وأنه أعظم وأكبر من كل شيء، فكيف يسوغ للجاهل الظالم أن يقول: إن الله يحل في الأرض ويداخل خلقه؟ تعالى الله وتقدس.