القول الثاني: أن كلام الله جل وعلا معنى قائم في نفسه، ولكنه أربعة أمور: الخبر والاستفهام والأمر والنهي، وهذا قول ابن كلاب ومن تبعه، وأما القرآن الذي بين أيدينا فهو حكاية عن هذا المعنى وعن هذه الأمور الأربعة، ومذهب ابن كلاب قد انقرض، ولكن تبعه الأشاعرة إلا أنهم غيروا شيئاً من ذلك وقالوا: إنه لا يكون أربعة، ولكنه معنى واحد؛ ولا يكون حكاية، ولكنه عبارة؛ لأن الحكاية تحاكي المحكي وتمثله، فلا يجوز أن نقول: إن القرآن حكاية عن كلام الله، ولكن نقول: إنه عبارة عن كلام الله! والمعبر إما جبريل أو محمد صلوات الله وسلامه عليه! ويلزم على هذا القول أن الله جل وعلا لا يستطيع أن يتكلم، فعلم جبريل ما في نفس الله فعبر عما في نفسه! وهم يقولون: ما علم جبريل ولكن الله أعلمه بما في نفسه فعبر عنه! وموسى عليه السلام لما سمع الكلام ما سمع من الله -على قولهم- وإنما سمع كلاماً خلق إما في الشجرة أو في الهواء! ويلزم من هذا أن الشجرة هي التي قالت:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي}[طه:١٤] ، وهذا كفر بالله جل وعلا.
ثم إنهم قالوا: الدليل على هذا: أن الله جل وعلا لا يجوز أن يكون مشابهاً لخلقه، والتشبيه كفر بالله، فإذا وصف الإنسان ربه جل وعلا بأنه مثل المخلوق فهذا كفر، فلا يجوز أن نقول بشيء يدل على التشبيه، ولو قلنا بالكلام الحقيقي للزم من ذلك التشبيه، كيف يلزم؟ يقولون: الكلام يتطلب لساناً، ويتطلب شفتين، ويتطلب لهوات وحبالاً صوتية، ويتطلب زمناً بعد زمن ليكون الكلام متعاقباً، وهذا كله تشبيه لله جل وعلا بالمخلوق.
هذا دليلهم، وأيدوه بقوله جل وعلا:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[الحاقة:٤٠] جاء هذا في آيتين من كتاب الله: في آية الحاقة، وفي آية التكوير، فهذا نص في أن القرآن قول الرسول، فإذا كان قول الرسول فلا يمكن أن يكون قول الله تعالى، هذا أهم ما استدلوا به، واستدلوا بأشياء أخرى منها: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل) ، فجعل الذي في النفس غير الكلام، وكذلك قول عمر رضي الله عنه:(زورت في نفسي كلاماً كنت أريد أن أتكلم به يوم السقيفة) ، قالوا: إذاً: يصح أن نسمي ما في النفس كلاماً وحديثاً فصح قولنا: إن كلام الله جل وعلا ما قام في نفسه، وسلمنا من التشبيه، وأثبتنا الكلام لله جل وعلا على هذا الوضع! هذا خلاصة قولهم واستدلالهم.
والجواب عن هذا: أولاً: مذهب المعتزلة والجهمية يقولون: إن كلام الله مخلوق، وهذا واضح وصريح ولا إشكال في رده وفي كفره.
ثانياً: الكلام ينقسم عند الأشاعرة إلى قسمين: الأول: كلام هو المعنى الذي يقوم بالنفس، وهذا هو كلام الله، ولا يجوز أن يكون مخلوقاً.
القسم الثاني: كلام يكون ملفوظاً ومكتوباً ومنطوقاً به وهذا مخلوق؛ لأن هذا هو كلام البشر وليس كلام الله جل وعلا، إذاًَ: فهؤلاء يفرقون بين المعنى واللفظ، فالمعنى -عندهم- هو كلام الله، أما اللفظ فليس هو كلام الله.