قوله:(ثم الإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين) ، هذا قد يكون غريباً ذكره هنا، ولكن لأن بعض أهل البدع أنكر الإجماع، وأنكر أن يكون الإجماع أصلاً يرجع إليه، فأراد المصنف أن يبين ميزة أهل السنة، وأن أصولهم التي يرجعون إليها في الأحكام وفي العقائد ثلاثة: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإجماع.
ثم بين أن الإجماع المعتبر هو الإجماع المنضبط، وهو إجماع الصحابة ومن تبعهم من التابعين، لأنهم كانوا محصورين، والكلام المحصور يعلم.
أما بعد أن تفرقوا في البلاد، وكثر العلماء، واتسعت بلاد المسلمين، فالإجماع لا يكون منضبطاً، فمدعي الإجماع بعد ذلك يكون مدعياً لشيء يستحيل الإحاطة به، وهذا معنى قوله:(الإجماع الذي ينضبط هو إجماع السلف) يعني: الصحابة، ولابد أن يكون الإجماع مستنداً إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله؛ لأنه ليس معنى الإجماع أنه يأتي بشيء جديد، وأنه أصل يشرع به، بل لابد أن يكون مستنداً إلى أصل من كتاب الله وسنة رسوله، واستدل على هذا بقوله جل وعلا:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}[النساء:١١٥] فسبيل المؤمنين يدخل فيه ما أجمعوا عليه، فهذا أصل يرجع إليه في الإجماع.
وهناك نصوص خاصة في كل مسألة يجمع عليها، ولابد أن يكون فيها شيء يعتمد عليه من كتاب الله وسنة رسوله، فإن قيل: ما الفائدة -إذاً- من الإجماع إذا كان هناك أصل يعتمد عليه الإجماع من الكتاب والسنة؟ فيقال: الفائدة في هذا أنه لا يجوز النزاع بعد ذلك في الفهم الذي قد ينزع به من ينزع به، فإذا حصل إجماع السلف فيجب أن يرفع الخلاف، ولا يكون هناك فهم يخالف هذا الإجماع.
وأهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من الاعتقادات ومن الأعمال، فيجب على الإنسان إذا عمل عملاً أن يرجع إلى هذه الأصول، فيرجع إلى كتاب الله فإن وجد فيه تبين أنه هدى، أو إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها جاءت لتفسير القرآن وإيضاحه وبيان ما نزل الله جل وعلا إلى الناس، فإن وجد ذلك فيها تبين أنه من الدين، أو إلى ما أجمع عليه المسلمون، فإن تبين أنه ليس لهذا العمل دليل في هذه الأصول وجب رده والبراءة منه، فهو بدعة وضلالة، وهذا معنى كونهم يزنون ما عليه الناس من أقوال وأفعال وعقائد بهذه الأصول.