أما الخلق فالله جل وعلا خالق كل شيء، ويجب أن لا يكون هناك شيء مخلوق لغيره، وإن كانت كثير من الأشياء من أفعال الناس، ولكن الله هو الذي أوجد لهم القدرة على هذا الخلق كما قال جل وعلا:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ}[النحل:٨٠] ومعلوم أن الناس هم الذين يصنعون بيوتهم ويبنونها ومع ذلك قال جل وعلا: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) وكذلك الجلود التي يستظل بها ويستدفأ بها فتمنع الحر والبرد، والخيام وغيرها، وكذلك ما يتخذ من اللباس من أصواف الأنعام ومن أوبار الإبل ومن أشعار المعز وغيرها كلها لابد أن تدخلها صناعة الإنسان وفعله، ومع ذلك جعلها خلقاً له جل وعلا؛ لأنه هو الذي خلقها؛ ولذلك قال جل وعلا:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:٩٦] يعني: الذي تعملونه قد خلقه، وليس في هذا متعلق لأهل القدر، وهذه الدرجة -وهي درجة الخلق- رد عمومها القدرية الذين ينكرون أن يكون الرب جل وعلا خالقاً لأفعال الناس للشبهة التي ذكرنها وهي: أنه لو كان خالقاً لأفعالهم للزم أن يكون معذباً لهم على فعله هو، وسيأتي حل هذه الشبهة والجواب عنها إن شاء الله.
ولهذا قال:(وأما الدرجة الثانية فهي: مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة) النافذة يعني: الماضية التي لا ترد، والشاملة العامة التي لا يخرج عنها شيء، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، يعني: كل موجود وجد بمشيئته، وكل معدوم فقد بمشيئته جل وعلا، هذا عموم لا يخرج عنه شيء.
قوله:(وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله جل وعلا) كل شيء يتحرك سواءً كان ذلك بفعل العاقل الاختياري أو ليس بفعله الاختياري كنبض عروقه وكحركة الأشجار وسقوط الورق وغير ذلك، كل شيء يتحرك فهو بمشيئته، وكل شيء يسكن فهو بمشيئته؛ لأنه جل وعلا هو المالك لكل شيء، وهو عليم بكل شيء، وقدير على كل شيء تعالى وتقدس.
قوله:(لا يكون في ملكه إلا ما يريد) فكل شيء ملك له وليس لأحد من الخلق شيء، ولكنه يعطي ما يشاء ويُملِّكُ من يشاء ملكاً مستعاراً يزول منه ويذهب.
قوله:(وأنه سبحانه على كل شيء قدير) يعني: أنه خلق الخلق بقدرته، وأنه لا يخرج عن خلقه شيء، فهو على كل شيء قدير، و (شيء) هنا عام لا يجوز أن يخرج منه شيء، فدخل فيه أفعال الخلق التي تصدر منهم سواء كانت صالحة أو فاسدة، يعني: سواء كانت طاعات أو معاصي فهي داخلة في هذا العموم والله خالقها.
قوله:(من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه وتعالى، لا خالق غيره ولا رب سواه) والرب هو: الموجد الذي يوجد الشيء ثم يربيه بما يلزم من إيجاد النعم ودفع النقم ودفع كل ما يضاد الحياة أو يذهب بها، فهو المالك المتصرف المنعم، ومع ذلك -يعني: مع هذا العموم وهو كونه جل وعلا لا يقع الشيء إلا بمشيئته وكونه جل وعلا الخالق لكل شيء- أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية، وأمره بالطاعة ونهيه عن المعصية لا يخالف كونه جل وعلا لا يقع إلا ما يريد، وكونه الخالق لكل شيء، وكونه كتب كل شيء، بل يتفق معه؛ لأن الله جل وعلا علم هذا المخلوق قبل وجوده وعلم أنه سيفعل كذا وكذا باختياره فكتب علمه، وليس معنى ذلك أن الكتابة مجبرة ومرغمة للإنسان على أن يفعل كذا، وإنما أمره بالشيء الذي يستطيع أن يفعله باختياره، فإذا أقدم على شيء فإنه يقدم عليه باختياره وقدرته.