[الخلافة الراشدة وحكم الخلاف في ترتيبها]
وأما الخلافة فليس فيها خلاف أن خلافة الخلفاء الأربعة على الترتيب المذكور، وأنها هي خلافة النبوة؛ لما جاء في المسند والسنن وغيرها، من حديث سفينة مولى رسول الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) ، والثلاثون السنة تنتهي بانتهاء خلافة علي رضي الله عنه؛ لأن خلافة أبي بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة، ثم علي أربع سنوات، ويبقى من الثلاثين قليل كملت بخلافة الحسن بن علي ستة أشهر، ثم بعد ذلك صارت ملكاً، فهذه هي المذكورة في حديث العرباض بن سارية حينما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فالخلفاء الراشدون هم هؤلاء بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه عقيدة أهل الحق الذين يتبعون الكتاب والسنة، ومن خالف ذلك فهو من أهل الزيغ والضلال.
وقوله: (إن التفضيل ليس من الأصول التي يضلل بها) ، يعني: التفضيل بين الخليفتين علي رضي الله عنه وعثمان؛ لأن فيها نصوصاً، ومن قدم واحداً منهما على الآخر يستدل بنصوص من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه رأي مرجوح؛ والراجح خلافه، وفرق بين الشيء الذي يكون مرجوحاً ويكون ضعيفاً، وبين الشيء الذي يضلل به الإنسان إذا سلكه، ويكون ضالاً من أهل الضلال، فالذي يكون به التضليل هو مسألة الخلافة، فالذي يقول مثلاً: إن الصحابة اغتصبوا الخلافة من علي، وكتموا وتمالئوا على الكذب والكتمان، بل وكفروا فلم يبق منهم إلا قليل، فهناك فرق بين من يقول هذا ومن يقول بالتفضيل.
ثم الذي يقول هذا ليس له أي معتمد، بل يقابله قوم آخرون مثل طائفة يقال لها الراوندية تزعم أن الخليفة هو العباس بن عبد المطلب، وأنه هو الوصي، وقولهم مثل قول الذين يقولون: إن الوصي هو علي بن أبي طالب، وكلها دعاوى، والدعوى لا تعجز أحداً.
أما إذا كان هناك نصوص يعتمدون عليها فهي مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنها محرفة وموضوعة، وليس هناك شيء، وإنما هي دعوى، وقد يُؤتى بشيء يُلبس به تلبيس مع أن الأمر في ذلك واضح وجلي.
والرسول صلى الله عليه وسلم بقي مريضاً وقتاً وهو يأمر أن يصلي بالناس أبو بكر رضي الله عنه، ولما اعترض من اعترض غضب صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لأن عائشة رضي الله عنها كرهت أن يكون أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها قالت: لا يقوم رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتذكر الناس مقام الرسول صلى الله عليه وسلم فيكرهون هذا الرجل الذي قام مقامه؛ لأنه لا أحد يصل إلى مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم في قلوب الناس.
فكانت تقول له: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق كثير البكاء؛ إذا قرأ لا يُسمِع الناس من البكاء، لو أمرت غيره أن يصلي بالناس، ثم ذهبت إلى حفصة وقالت لها: قولي له هذا القول لعله يأمر غيره، فلما قالت له ذلك قال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وكان يتأكد من ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ائتوني بكتاب؛ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا) .
فاختلفوا عنده، فمنهم من قال: نأتي بالكتاب، ومنهم من قال: إنه مريض ويخشى أن يكون كلامه هذا ليس كلاماً في تمام عقله وصحته، فلما اختلفوا قال: (قوموا عني، فما أنا فيه خير مما أنتم فيه، ثم بعد ذلك قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم لئلا يقول قائل أو يتمنى متمنٍ، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) ، فرأى أن ترك الكتابة أولى وأحسن فتركها، وإلا لو أراد أن يكتب فلا أحد يحول بينه وبين كتابته صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الكتاب لما جاء هكذا مبهماً قال أهل الباطل: إنه كان يريد أن يكتب وصية لـ علي بن أبي طالب، ولكن عمر حال بينه وبين ذلك، وهذا من الافتراء، فإنه ثبت في بعض الطرق في الصحيح، أنه قال لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك، وائتوني بكتاب أكتب له حتى لا يقول قائل ولا يتمنى متمنٍ) ، ولكن تبين له أن ترك الكتابة أولى فتركها.
وكذلك ثبت أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ائتيني يوم كذا -يعني فيما بعد-، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ -كأنها تقول: أرأيت إن متّ؟ - فقال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر) .
وثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا -وهي وحي- فقال: (كنت على بئر فاستقيت منها ما شاء الله أن أستقي، فجاء أبو بكر ليعقبني فنزع ذنوباً أو ذنوبين، وكان في نزعه ضعف والله يغفر له) ، والذنوب والذنوبان عبارة عن المدة، فإنه بقي بعده سنتان فقط، قال: (ثم جاء عمر وتحولت الدلو غرباً، فلم أر عبقرياً يفري فريه، حتى ضرب الناس -روى الناس- بعطن) ، وغير ذلك كثير من النصوص، ولهذا قال بعض أهل السنة: إن خلافة أبي بكر بالنص، ولكنها ليست بالنص الجلي وإنما هي بالنص الخفي، والصواب أنها جاءت الإشارة إليها في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خلافته صارت بمبايعة الصحابة له.
وقوله: (وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله) ؛ أي: للنصوص التي ذكرنا بعضها، وهذا باتفاق أهل السنة خلاف أهل البدع.