[إنكار أهل الجبر لوجود الاختيار من الإنسان في أفعاله]
وقابلهم فريق آخر قالوا: إن العبد لا تصرف له، ولا يستطيع أن يعمل عملاً؛ بل الأعمال كلها لله، والأفعال كلها لله، فإذا أضيف إلى العبد شيء من الأعمال فهو على سبيل المجاز.
مثل قولك: أمطرت السماء هبت الريح طلعت الشمس مات فلان، وما أشبه ذلك، فهل فلان يموت باختياره؟ وهل الشمس هي التي تطلع باختيارها، أو أنها مدبرة مسوقة؟ كذلك يقال في نزول المطر، وهبوب الرياح، وتحرك الأشجار وغيرها.
فزعموا أن أفعال الناس بهذه المثابة، وهذه أيضاً مكابرة.
فلم يفرقوا بين العقلاء الذين لهم اختيار وبين المسخر المدبر الذي لا اختيار له ولا عقل، وإنما سخره الله جل وعلا بتسخيره وقدرته، لم يفرقوا بين هذا وهذا، وهذا ضلال كبير، وهؤلاء قابلوا أولئك تماماً، وقالوا: إن الإنسان لا اختيار له ولا قدرة، ويعنون: أن أفعاله كحركة الشجرة التي تكون في مهب الريح، واستدلوا على أقوالهم بشبهات، وكلا الطائفتين ضالة، ولكن من هؤلاء فريق هم أخبث الطوائف وأضلها؛ حيث وجد من هؤلاء طائفة تقول: إن الإنسان لا يخرج عن الطاعة إن تحرك، فهو في طاعة سواء عصى أو أطاع! لأنه إن عصى الأمر الشرعي فقد أطاع الأمر القدري، فجعلوا الأمر الشرعي معارضاً للأمر القدري؛ ولهذا يقول أحدهم: أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات يعني: أن كل ما يصدر منه فهو طاعة، وهذا كفر ما وصل إليه كفر إبليس -نسأل الله العافية- لأنه لم يفرق بين الإيمان وبين الضلال بين الكفر وبين الهدى، إذ جعله كله مطلوب، وكله طاعة! والإنسان إذا لم يتقيد بهدى الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ضلاله لا يمكن أن ينتهي عند حد، والشيطان قال لربه جل وعلا:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}[الأعراف:١٦] ، {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ}[النساء:١١٩] ، والله جل وعلا أمره أن يسجد لآدم، فهل سجوده لآدم ممتنع لا يستطيعه أم أنه تركه باختياره؟ تركه مختاراً مريداً؛ ولهذا غيره من الملائكة سجدوا، وهو امتنع، وقال: أنا خير منه؛ وكأنه يقول: ليس هذا بعدل، إنما العدل أن تنعكس القضية، فيكون آدم هو الذي يؤمر أن يسجد لي؛ لأني خير منه، فإني مخلوق من النار، وهو خلق من الطين، والطين وضيع يوطأ بالأقدام ويمتهن، أما النار فهي تعلو وترتفع، ولها قوة الإحراق، فلهذا يقولون: إن أول من قاس إبليس.
والمقصود: أن إبليس هو الذي غوى مختاراً بإرادته، والإنسان لم يكلف إلا ما يستطيعه، والحق وسط بين هاتين الطائفتين الباطلتين اللتين ضلتا، وهو أن الله جل وعلا عليمٌ بكل شيء، وكتب كل شيء، وأن مشيئته نافذة فلا يقع في الكون إلا ما يشاء ويريد، وأنه الخالق وحده، وقد خلق الإنسان، وخلق له أعمالاً، وجعله يفعلها باختياره وإرادته، فجعل له اختياراً، وجعل له قدرة، فإذا وجدت الإرادة والقدرة مع الاختيار، فلا يتخلف المراد، والله هو الذي خلق له هذه الأشياء، وهذا هو الحق الذي يفصل بين الضلال، ودائماً الحق يكون وسطاً بين ضلالتين.