[إثبات صفة النزول]
قال: (مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) ، جاء بالنصب: فأغفر له، فأستجيب له، فأعطيه، وجاء بالرفع.
أما النصب فهو على جواب الطلب كما هو معروف، وأما الرفع فهو على الاستئناف، وكلاهما صحيح، وكلاهما روي به الحديث؛ فلهذا تجده في بعض كتب الحديث مرفوعاً، وفي بعضها منصوباً، وكله صحيح.
وهذا من الكلام الفصيح الجلي الظاهر، وتأويله يكون تحريفاً.
فالنزول في اللغة: هو الإتيان من العلو إلى ما هو أسفل، ولا يفهم منه إلا هذا، والنزول هنا أسند إلى الله جل وعلا: (ينزل ربنا) هكذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
(ينزل ربنا) فينزل: فعل مضارع، والفاعل هو الرب جل وعلا، فالتكلف بل التحريف بأن النازل شيء آخر رد لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كفعل أهل التأويل مثل الأشاعرة وأساتذتهم وقدوتهم من المعتزلة ممن يقبل الحديث، وإلا فكثير منهم لا يقبله.
المؤولة يقولون: (ينزل أمره) ، أو (تنزل رحمته) ، أو (ينزل ملك) وما أشبه ذلك، وهذا باطل، والحديث يبطله من وجوه عدة: الوجه الأول: أن النزول هنا مغيّا بغاية، وهو آخر الليل، ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن أمر الله ينزل دائماً ليس في آخر الليل فقط، بل ينزل في الليل والنهار وفي أوله وآخره ووسطه، وفي كل وقت أراد الله جل وعلا، وهذا الوجه واضح وجلي.
الوجه الثاني: أنه لا يعقل أن الأمر يقول: من يدعوني فأستجيب له! ولا الرحمة تقول ذلك إلى آخره، فهذا باطل قطعاً، وكذلك الملك لا يمكن أن يقول: من يستغفرني فأغفر له، من يسألني فأستجيب له، لا يمكن أن يقول هذا الملك ولا أحد من الخلق، فتعين أن يكون النازل والقائل هو الله جل وعلا لا غيره، وهذا واضح أيضاً وجلي.
الوجه الثالث: أنه جعل النزول إلى سماء الدنيا، وأمر الله ينزل إلى الأرض وإلى كل مكان ورحمته وملائكته كذلك، فدل هذا على أن التأويل باطل.
الوجه الرابع: أن مذهبهم يبطل تأويلهم، وهو أنهم أنكروا علو الله جل وعلا.
إذاً: أمره من أين ينزل وهو في كل مكان؟! عندهم أن الله في كل مكان تعالى الله وتقدس، فمن أين ينزل الأمر؟! فلا بد أن يكون المذهب باطلاً حتى يصح تأويلهم، وكل ذلك باطل، إلى غير ذلك من الأوجه الكثيرة التي أوصلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى ما يقرب من أربعين وجهاً في شرح هذا الحديث، وكلها تبطل التأويلات، ويكفينا هذه الأوجه.
وقد احتج الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري على أن النازل ملك بالحديث الذي رواه النسائي وقال الحافظ: إنه صحيح، وهو: (أن الله جل وعلا يمهل حتى إذا صار آخر الليل أمر ملكاً فينادي: من يستغفر الله فيغفر الله له؟ من يدعوه فيستجيب له؟) إلى آخره.
وقال: (يتعين أن يكون هذا هو المراد، والأحاديث التي جاءت على خلاف ذلك يجب أن تأول إليه) وبهذا قال الأشاعرة، وكأنه أمر متفق عليه عندهم، والجواب عن هذا من وجوه: الوجه الأول: أن هذا الحديث لا يساوي ما في الصحيحين، وهذا الحديث رواه ما يقرب من ثمانية عشر صحابياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال بعض الحفاظ: إنه متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يترك ما كان بهذه الصفة بحديث قد تكلم فيه، وضعفه بعض الحفاظ، ثم كيف يحكم على الأحاديث التي بلغت حد التواتر بحديث هذه صفته، فهذا تحكم لا يجوز.
الوجه الثاني: على تقدير صحة ما رواه النسائي رحمه الله، فإنه لا يخالف هذه الأحاديث الثابتة، فيكون ربنا جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر بذلك، ويأمر أيضاً ملكاً أن يقول ذلك، فيكون بذلك اتفاق الأحاديث، ولا يكون فيها خلاف، وليس في هذا أي إشكال.
وقوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة) كل ليلة هذا عام في الليالي، ولكن في آخر الليل، وقوله: (حين يبقى ثلث الليل الآخر) (الآخر) صفة للثلث، فالليل ثلاثة أقسام: أول ووسط وآخر، والأمر واضح لا إشكال فيه.
وقوله: (فيقول) يعني: أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا يقول: من يدعوني؟ والدعاء -كما سبق- نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، ودعاء العبادة أعم، والقراءة والتسبيح والتكبير والصلاة والصوم وغير ذلك هذا كله دعاء عبادة؛ لأن كل من يفعل شيئاً من هذه الأمور يريد بذلك القرب إلى الله والإثابة، ودفع الهم والعذاب، فهو في الواقع داعٍ لربه.
وقوله: (فأستجيب له) يدلنا على أن الداعي يستجاب له ولابد، فمن دعا الله استجاب له، ولكن هذا المفهوم قد قيد بنصوص أخرى: أولاً: أن الله لا يستجيب إلا بمشيئته جل وعلا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سألتم الله فاعزموا المسألة فإنه لا مستكره له) .
يعني: أن دعاء الداعي لا يحمله على أن يعطي شيئاً كرهاً، فالأمر بمشيئته، إذا شاء أن يستجيب استجاب، وإن شاء ألا يستجب لا يستجيب.
ثانياً: أن السائل قد يكون تخلفت الإجابة بسببه هو، بأن يكون يأكل حراماً، أو يكون قلبه مشغولاً لاهٍ، فإنه جاء في الحديث: (إن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه) ، أو أنه يكون مستعجلاً؛ فإنه جاء في الحديث: (إن الله يجيب دعوة العبد ما لم يعجل) ، أي: ما لم يستجعل، يقول: دعوت ودعوت فلم يستجب لي، فيترك الدعاء.
وقد يؤخر الله جل وعلا إجابة عبده حتى يسمع إلحاحه ودعاءه وابتهاله؛ لأنه جل وعلا يريد ويحب ما ينفع العبد ويقربه إلى ربه جل وعلا كما سيأتي.
وقوله: (من يسألني) قال أولاً: (من يدعوني) ، ثم قال: (من يسألني) ، وسبق أن الدعاء أعم، والمسألة أخص؛ ولهذا فرق بينهما، فالسؤال هو طلب الشيء المعين الذي يسأل من أمور الدنيا والآخرة، أما الدعاء فهو عام، وقال في الأول: (فأستجيب له) ، وقال في الآخر: (فأعطيه) فالدعاء الذي في ضمنه العبادة، أو يشتمل على العبادة يناسبه الإجابة، وأما المسألة فيناسبها العطاء.
وقوله: (من يستغفرني فأغفر له) الاستغفار استفعال، وهو طلب المغفرة، والمغفرة هي: الستر والوقاية.
يعني: أن يستر ذنبه، ويوقى تبعته، فيسأل الإنسان ربه أن يستر ذنبه، وأن يقيه تبعة الذنب الذي كان عليه، وفي ضمن هذا: أن يمحي ذنبه، حتى لا يفتضح به في صحيفته، وقد يبقى ولكن الله يستره كما جاء في الحديث الصحيح من حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين حينما سئل وقيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعته يقول: (يدني الله جل وعلا عبده المؤمن فيضع عليه كنفه -يعني: ستره- فيقرره بذنوبه.
يقول: عملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، فإذا رأى أنه قد هلك قال الله جل وعلا له: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفته بيمينه) .
وقوله: (فيضع عليه كنفه) حتى لا يتبين للناس حينما يذكّر بذنوبه تغير الوجه، فإنه يتغير وجهه عندما يرى أنه قد هلك حتى يبشره ربه جل وعلا بمغفرته وستره له، فهذا نوع.