[للصحابة من السوابق ما يوجب مغفرة ما قد يصدر منهم من ذنوب]
قال رحمه الله: (ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم) مثل صحبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقتالهم بين يديه، ومثل تلقي العلم والإيمان عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه أمور لا يمكن لأحد أن يشاركهم فيها، ومثل إنفاقهم في سبيل الله، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القليل منهم كثير، ولو أنفق من يأتي بعدهم مثل الجبال ما يبلغ القليل من أحدهم، فهذه من خواصهم التي لا يصل إليها أحد بعدهم.
وقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنهم خير القرون، والقرون: جمع قرن، والقرن: هو الطائفة من الزمن إذا اجتمع فيه الناس على شيء من إمام أو دين حتى تنقرض هذه الطائفة وتنتهي، وهل هو محدد بسنين معينة أو بلا تحديد؟ الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة قرناً، والذين بعدهم قرناً، ومن بعدهم قرناً، فليس ذلك محدداً، ولكن حدده بعض العلماء تقريباً بمائة سنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للصحابة يوماً من الأيام: (أرأيتم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض نفس منفوسة) ، يعني: أن نهاية الناس الموجودين في مائة سنة، والصواب أن القرن عبارة عن اجتماع قوم على إمام ودين يجتمعون عليه، ثم تنتهي هذه الجماعة.
وخير القرون قرن الصحابة الذي عاشوا فيه، ثم أتباعهم يلونهم في الخيرية، ثم الذين يلونهم، وقد عرفنا أن ثم تأتي للترتيب مع التراخي، ثم بعد ذلك -أي: بعد أتباع التابعين- يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويعملون ما لا يؤمرون.
وأخبر أن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم وهذا عام، وقد قيل: هذا فيمن أسلم بعد الفتح فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه وأتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر عنه به، فهذه الأمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق، وقد ذكر المؤلف في منهاج السنة عشرة أمور من أسباب مغفرة الذنب المحقق هذه بعضها، ومنها: الحسنات العظيمة التي تكون الذنوب مغمورة فيها، ومعلوم أن حسنات الصحابة رضوان الله عليهم أفضل من غيرهم.
ومنها: التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه.
ومنها: المصائب التي يصاب بها الإنسان، فإنه ما يصيب الإنسان من مصيبة إلا كانت تكفيراً لما اقترفه من الذنوب.
ومنها: إتباع السيئة الحسنة، يعني: يأتي بحسنات بعد ذلك تمحو تلك السيئات، وهذا غير التوبة.
ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض، فإن الله يقبل دعاءهم بعضهم لبعض.
ومنها: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أحق الناس بها، والشفاعة لأهل الذنوب.
ومنها: مغفرة أرحم الراحمين جل وعلا، فإنه جل وعلا يغفر لأهل السوابق وأهل الفضل ما لا يغفر لغيرهم.
فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر، والخطأ مغفور لهم؟! ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم -وليس من فعلهم كلهم- قليل نزر مغمور في جنب فضائلهم ومحاسنهم الكثيرة رضوان الله عليهم: من الإيمان بالله -وهو من أفضل الأعمال- والإيمان برسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، وهم أعلم الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها عقولاً، وأكثرها عملاً، رضوان الله عليهم، فالإيمان في قلوبهم أمثال الجبال الراسيات.