[أقسام المعية]
وهذه الآيات التي ذكرها المصنف في المعية قسمها إلى قسمين: قسم في المعية المطلقة العامة، وقسم في المعية الخاصة، وهذا مما يدل على أن المعية في كتاب الله تنقسم إلى قسمين: معية عامة: وتقتضي المراقبة والخوف والاطلاع، ومعية خاصة: وتقتضي النصر والتأييد والحماية، وهذه تكون على حسب ما أضيفت إليه.
ثم إن المعية في لغة العرب: معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فقول الإنسان مثلاً: معي علمي غير قوله: معي مالي، وقوله: معي زوجتي، غير قوله: معي صاحبي، كذلك في بقية الإضافات، وقد سمع من كلام العرب: سرنا والقمر معنا.
إذاً: المعية لا تقتضي الممازجة والمداخلة، فإذا قيل: إن الله مع عباده فلا يفهم من هذا أنه مداخلهم، وحال معهم تعالى الله وتقدس، وإنما تكون المعية حسب ما أضيفت إليه.
فمعية الله مع خلقه لا تخرج عن هذين النوعين: إما أن تكون عامة مطلقة، ومعناها: أن الله جل وعلا يسمع كلامهم، ويرى أعمالهم ويطلع عليها، ويبصرهم وهم لا يخرجون عن قبضته، وهو محيط بهم، وهذا هو معنى قول السلف: إن المعية تفسر هنا بالعلم، وقولهم هذا رد على الذين يقولون: إن المعية تقتضي الممازجة والمداخلة يعني: يردون بهذا على أهل الحلول وأهل الاتحاد الذين يقولون: إن الله حل في الأمكنة، تعالى الله وتقدس.
وهذا واضح في الآيات التي سبقت كقوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، هذه عامة لجميع الخلق، لا يخرج من هذا أحد: مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم، ولهذا صار مقتضاها: اطلاع الله على أعمالهم، وعلى قلوبهم، وسماعه لكلامهم، وكونهم في قبضته، وهو محيط بهم، ولا يخرجون عن قبضته، فلهذا قالوا: على الإنسان أن يخاف ربه ويراقبه، وهذه الآية تدل على ذلك: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، يعني: اعلموا أني أسمع كلامكم، وأرى أعمالكم، وأنتم في قبضتي، فخافوني وأحسنوا الأعمال.
وكذلك في الآية الثانية آية المجادلة وهي قوله تعالى: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) ، وهذه عامة للخلق كلهم.
أما قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] ، فهذه معية خاصة، ومعناها: أن الله مع نبيه وصاحب نبيه دون الكفار الذين أحاطوا بالغار، وكذلك قوله في خطابه لموسى وأخيه هارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦] ، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه، وهذه المعية مقتضاها غير مقتضى المعية الأولى، مقتضى هذه المعية النصر والتأييد والحفظ، وهي معية بالعلم والاطلاع والإحاطة، يعني: مثل الأولى بالعلم والاطلاع؛ لأن علم الله عام شامل، واطلاعه عام، وسمعه عام شامل، وقبضته لا أحد يخرج عنها تعالى وتقدس، فهو محيط بالخلق، فدل ذلك على أن المعية ليست هي المخالطة، كما يقول أهل الحلول الذين يقولون: إن المعية تكون فيما أضيفت إليه، وهذا يمكن أن يعرف في المخلوق، فالعرب يقولون: سرنا مع القمر، ويقول الإنسان: معي زوجتي، ومعي مالي، ومعي صاحبي، ويقول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:٢٩] ، أي: معه في الصحبة، والإيمان وقتال العدو وغير ذلك، وليسوا مخالطين لذاته ولا مداخلين له.
فإذاً: تكون المعية المفهومة على حسب الموارد، ومعية الله جل وعلا لا تخالف علوه، فهو مع الخلق أينما كانوا وهو على عرشه.
أما قول السلف: إن المعية هي العلم، فهذا لأجل رد اعتقاد أهل الحلول الذين يقولون: إن الله في كل مكان، وإنه معنا في الأرض.
فعلى هذا يتبين أن معية الله جل وعلا خاصة به، وليست مثلما يقال: إن فلان مع فلان، بل هي معية خاصة به؛ وذلك أن علم الله عام، وسمعه عام، وإحاطته عامة وشاملة، ولكن يجب أن يعلم أن علوه واستواءه حقيقي على ظاهره، وأن معيته لخلقه حقيقة على ظاهرها، وأن أحدهما لا تناقض الأخرى؛ لأن الأخبار في هذه قطعية، وفي هذه قطعية كذلك، وليس واحد من الأخبار يعارض الآخر، بل يجب أن يصان عن الظنون الكاذبة، وعن خصائص المخلوقين، فإن الله جل وعلا لا يتصف بشيء مما يخص المخلوق؛ فصفاته خاصة به، فهو مع موسى عليه السلام وقريب منه، وعندما كلمه من طور سيناء كان على عرشه.