[الرد على شبهات منكري الرؤية]
الأمر ليس سهلاً فلا يتساهل في مثل هذا، بل الأمر صعب جداً؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار، يجب عليهم ما يجب على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك، فأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، يقولون: إن هذه المخلوقات لما نظرنا إليها وجدنا أنها فقيرة تعتريها الأعراض، مثل: الجهل والعلم والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة.
نقول: نعم هذا صحيح، يقولون: إذاً الأصل هو هذا، والذي صار كثيراً محدثاً وجد بعد إن لم يكن موجوداً فلا بد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة وبطلت الأديان، والمرئي لا بد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لا بد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، أن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر.
هذه أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل: الكرامية، قالوا: نعم نقول ذلك ونحن أسعد بالنصوص منكم، لأن هذا دلت عليه النصوص فنحن نقول به ولا ضير علينا، نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وهذا كله باطل بلا شك سواء، قول هؤلاء وقول هؤلاء.
ولكن مثلما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب هؤلاء المبطلة من أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، ويعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هؤلاء يبطل قول الفريق الثاني.
والرد الصحيح الذي يجب أن يرد على هؤلاء أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، أصل المسألة بدعية، الرسل لم يأمرو الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجسام حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل إنما أتت بالإيمان والإيمان إنما يكون بالوحي، فهم ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فيكون أصل مقالتهم فاسدة ومردودة، هذا أمر.
الأمر الثاني: أننا كلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، بدون أن نرجع إلى عقولنا في ذلك.
الأمر الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، فهو جل وعلا حقيقة له سمع وله بصر وله وجه وله يدان كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) .
الأمر الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكلما كان له ذات ووجود، يصح في العقل نظره، مع مجيء الشرع بذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا الذي جاء به القرآن وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق، ونحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هي مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل.
أما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وغيره كثير مما أبطل العلماء به أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة التي ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع شبهاً وتترك النصوص الواضحة الجلية، ويكون الأمر مثلما قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:٧] مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا -كما سبق- بأدلة كثيرة مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فهي تدل على الرؤية كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦] ، {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:٤٦] وما أشبه ذلك، فاللقاء كما هو ثابت في اللغة: هو المعاينة بعد المسير والكدح، فهي تتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة؛ لأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجتهد في دعائه ربه أن يمنحه النظر إلى وجهه الكريم.