[إثبات علو الله على خلقه]
بعد ما تقدم ننتقل إلى معنى آخر، وهو الاستدلال على علو الله جل وعلا، وأنه عال على خلقه، وسبق أن العلو تضافرت عليه أدلة الشرع الذي نزل من عند الله، وأدلة العقل والفطرة والإجماع -إجماع المؤمنين من أتباع الرسل- على هذا هذا المعنى.
وهذه الصفة وصف الله جل وعلا بها نفسه في آيات كثيرة، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ومنها الحديث السابق الذي ابتدأ به المؤلف في أول الفصل وهو أنه جل وعلا ينزل إلى سماء الدنيا، فالنزول لا يكون إلا من علو إلى أسفل، وسبق الكلام عليه فقال: (وقوله في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما أن رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة ً من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ) حديث حسن) بين الشيخ رحمه الله أن الحديث حسن، وسبق أن الحديث الحسن من أقسام الصحيح الذي يثبت به الحكم، سواء كان الحكم عقدياً أو عملياً من الأعمال التي تجب، ولا فرق بين هذا وهذا، هذا هو مذهب أهل السنة، وقد رواه أبو داود والإمام أحمد والبيهقي والنسائي والحاكم وغيرهم، وهو حسن بذاته.
فقوله: (ربنا الله) ، الرب في لغة العرب: هو المالك المتصرف، الذي يملك الشيء ويتصرف فيه، والله جل وعلا يملك كل شيء ويتصرف فيه، ولا أحد يتصرف مع الله تعالى وتقدس، وهذا من أظهر أسمائه جل وعلا، وسيأتي أن معنى هذا الاسم ينقسم إلى قسمين، وسبق أن الاسم يجب الإيمان به، وبما دل عليه من المعنى، وبأثره، وأثره أنه جل وعلا رب كل شيء، وأما معناه: أنه جل وعلا هو الذي يتصرف في كل شيء، ويربي خلقه بنعمه.
وقوله: (الذي في السماء) لفظ (في) إما أن تكون بمعنى: على، وقد جاءت كثيراً (في) بمعنى على كقوله جل وعلا في قصة فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١] يعني: على جذوع النخل، وقول الله جل وعلا: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:١٣٧] ، {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:٢] ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] ، فهذا كثير في القرآن، وكلها تدل على أن (في) بمعنى على، والحروف تأتي متعاقبة كثيراً.
وإما أن تكون (في) بمعنى العلو، فلفظ (السماء) يكون المراد به أن الله في العلو، أي: ربنا الله الذي في العلو، وسواء قلنا هذا أو هذا فهي تدل على علو الله جل وعلا وارتفاعه على خلقه، وهذا هو المقصود.
وهذا -كما سبق- دلت عليه الأدلة المتضافرة، وإذا جاءنا دليل الشرع وجب أن نقول بمقتضاه، ونعتقد ما دل عليه، ونؤمن به، وما سواه إذا كان مخالفاً له لا نلتفت إليه، وإذا توافرت الأدلة صار زيادة ثبوت، وزيادة خير وتأكيد.
وقلنا: إن العقل والفطرة والإجماع يدل عليه والإجماع لا يكون إلا بدليل، ولكن إذا انعقد فهو يدل على الحق؛ لأن هذه الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) ، وأما العقل فليس كل عقل ينظر إليه، وإنما ينظر إلى العقل الذي سلم من الانحراف والتغير، ومن المعلوم أن عقل أبي بكر ليس كعقل أبي جهل، فلا مساواة بين عقل المؤمن الذي يعرف ربه وعقل الكافر الذي ينكر ربه، والمؤمنون إذا سألوا المبطل الذي ينفي هذا: أرأيت هذه المخلوقات من السماوات والأرض هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ كيف يكون الأمر إذا قال: إنها غير مخلوقة؟ فهذا لا يمكن؛ لأن هذا كفر بالله جل وعلا، فلابد أن نقر بأنها مخلوقة، فإذا قال: إنها مخلوقة، نقول له: من الذي خلقها؟! لابد أن يقول: الله، فإذا قال: خلقها الله نقول: عندما خلقها هل خلقها في ذاته أو خلقها فوقه أم أين خلقها؟ فإن قال: خلقها في ذاته، فهذا كفر بالله جل وعلا، وإن قال: إنه خلقها فوقه تكون هي أكمل منه؛ لأن الفوق صفة كمال وعلو، فلابد أن يقول: إنه خلقها وهو فوقها أعلى منها، خارج عنها، ليس داخلاً فيها، فهذا نوع من الأدلة العقلية، وهي كثيرة، مع أننا لا نحتاج إليها لوجود الأدلة الشرعية، ولكن لما كثر الخوض والجدل أغري بعض الناس بمثل هذه المجادلات، فصار لا يقتنع إلا بمثل هذا، فإذا كان لا يقتنع إلا بمثل هذا فلا بأس أن يذكر له الشيء الذي يقنعه أو يوقفه عند حده.
أما الإجماع فإنه مبني على ما في الفطر التي فطر الله جل وعلا خلقه عليها، وكل من يعترف بربوبية ربه جل وعلا لا ينفك عن الفقر والحاجة، فإذا أراد أن يسأل ربه فإنه يجد دافعاً يدفعه من داخل نفسه، بأن يسأل ربه ويرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب! لا يلتف يميناً ولا شمالاً ولا تحت، يسأل ربه متجهاً إلى العلو، وهؤلاء المبطلون يقولون: إن الله في كل مكان، هذه عقيدتهم، ويقولون: ليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس أمام ولا خلف، ولا فوق العالم ولا داخل العالم، لا مداخل ولا محايد، ولا يسأل عنه بأين، ولا يجري عليه زمان، وليس في مكان، إذاً ماذا يكون؟! هذا هو العدم المحض، فهذا الوصف لا يمكن أن ينطبق إلا على المعدوم الذي لا وجود له، إذاًَ: هذه مجرد فكرة في أدمغتهم فقط، هذا هو الواقع، وهو الذي يدل عليه قولهم، وهذا هو مبدأ الإلحاد، بل هو أصل الإلحاد الذي آل إلى إنكار وجود الله جل وعلا، وهذا من أبطل الباطل، الله جل وعلا يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] ، هل ممكن هذا؟ هذا مستحيل! لا يكون الموجود هكذا من غير منشئ؛ لأنك لن تجد سيارة قائمة صنعت نفسها أبداً، لابد أن يكون لها صانع متصرف أكمل منها.
ثم بعد هذا نقول: إن المؤمن يعترف أن ربه فوقه دائماً، وهذا إجماع الخلق؛ ولهذا لما كان أحد هؤلاء الكبار -الذين يقررون هذه العقيدة الزائفة الباطلة- في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن الخامس تقريباً وهو الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، كان جالساً على كرسي، وأمامه الناس يستمعون لدرسه وقوله، وصار يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فصار يتكلم على هذه المسألة وينفي أن يكون الله في السماء، ويتأول تأويلاً باطلاً، فقام رجل من الناس وقال له: يا إمام! اترك هذا الكلام الذي تقوله وتقرره، وأخبرني عن ضرورة نجدها في نفسي ونفسك وفي نفس كل الناس ما دعا أحد: يا رب! إلا ووجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه إلى فوق، ولا يلتفت لا يميناً ولا شمالاً، من أين جاءت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها؟! لابد من جواب، فوضع الرجل يده على رأسه، ثم نزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل! لماذا حيره؟! لأنه أفسد عقيدته التي كان يبنيها وينافح عنها بهذه الكلمة، فما استطاع أن يجيب، كما أنه لما حضرته الوفاة صار يبكي ويقول: ما علمت شيئاً، ونهى أصحابه عن الخوض في علم الكلام، وقال: يا ليتني أموت على عقائد عجائز نيسابور! والمقصود أن هذا إجماع مبني على الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، والأصل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها، قوله: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك) ، (تقدس) يعني: تنزه وتطهر عما يقوله الظالمون ويصفونه به، فله الكمال المطلق.