للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات صفة القدم لله جل وعلا]

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله -وفي رواية:- يضع عليها قدمه؛ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط وعزتك وجلالك) ، فهو حديث متفق عليه.

أولاً: هذا يدلنا على أن قول النار فيما ذكره الله جل وعلا: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] استفهام لطلب الزيادة، وهذا الحديث يدل على ذلك.

ثانياً: هذا القول يجرى على ظاهره، وأن جهنم تقول قولاً يسمع، وتتكلم، والله جل وعلا أخبر فيما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه وعد الجنة والنار كل واحدة منهما ملؤها، فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحاجت الجنة والنار -يعني: اختصمتا- فقالت الجنة: مالي يدخلني الضعفاء والمساكين؟! وقالت النار: أوثرت بالجبارين والمتكبرين! فقال الله جل وعلا للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها) .

فأما الجنة فإنها لا يزال فيها فضل مساكن بعد دخول أهلها فيها، فينشئ الله جل وعلا لها خلقاً، فيسكنهم فضل الجنة، وأما النار فلا يزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ يعني: حتى ينتهي الخلق، ومعلوم أنها كما أخبر الله جل وعلا لا يلقى فيها إلا الجن والإنس كما قال جل وعلا: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:١١٩] ، وهذا قسم منه جل وعلا، فهي تطلب الزيادة حتى يضع عليها رجله، وربك ليس ظلاماً للعبيد، أما ما جاء في الصحيحين من حديث أنس: (أن الله جل وعلا ينشئ للنار خلقاً، فيسكنهم في النار، فيملأ النار بهم) ، فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما: حديث مقلوب، يعني: أنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، وقد بين ذلك البخاري، فإنه لما رواه أتبعه بالرواية الصحيحة التي تبين ذلك، والبخاري رحمه الله إذا غلط الراوي لا يتركه، لابد أن يبينه، بخلاف مسلم رحمه الله، فإنه يذكر السند والمتن على حسب ترتيبه الذي رسمه لنفسه، وتنتهي عهدته؛ ولهذا وجد في صحيح مسلم بعض الكلمات التي فيها خطأ واضح، وقد تكون مخالفة للقرآن، وإن كان السند صحيحاً، ولكن من المعلوم قطعاً أن الراوي وإن كان ثقة ثبتاً لا كلام فيه فإنه يجوز عليه الخطأ؛ لأنه غير معصوم، مثل ذلك الحديث الذي فيه: (وخلق التربة يوم السبت) ، فهذا خطأ ظاهر؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وليس في سبعة أيام، وأخبرنا أن آخر الأيام التي تم الخلق فيها الجمعة، فإذا كان آخرها الجمعة فأولها الأحد، والسبت ليس فيه خلق، وهذا ثابت حتى عند أهل الكتاب ولا مرية فيه.

والمقصود أن هذا الحديث لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، وإنما هذا خطأ من الراوي، وقد بين العلماء ذلك، فالصواب أن الخلق الذي ينشؤه الله هو للجنة، كما ثبت ذلك في الروايات الثابتة في الصحيحين وغيرهما.

وهذا الحديث حاول أهل التأويل تأويله كما فعلوا في غيره، وقد جاءوا في تأويله بشيء، يضحك العاقل، حيث لم يقبلوا أن يوصف الله جل وعلا بأن له رجلاً، وكلمة (قدمه ورجله) كلاهما سواء لا فرق بينهما، فمرة عبر الرسول صلى الله عليه وسلم برجله، ومرة بقدمه، والمعنى واحد، ومن الاعتراضات التي اعترضوا بها أنهم قالوا: هذا الحديث مخالف للقرآن، ما وجه المخالفة؟ قالوا: إن الله أخبر أن جهنم تمتلئ بالجنة والناس، وليس بقدمه أو رجله.

والجواب عن هذا: أنه ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فينزوي بعضها إلى بعض) ، يعني: تتلاقى وتجتمع، فتمتلئ بما فيها، فتكون امتلأت من الجن والإنس، وليس بغيرهم.

كذلك قالوا: إن هذا يقتضي التشبيه والتجسيم، ومعروف فيما سبق أن هذا باطل، فإذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصف ربه جل وعلا بأن له قدماً وجب إثبات ذلك.

وقالوا: إن هذا فيه تشويه؛ لأنها رجل واحدة وقدم واحدة، فنقول: تعالى الله أن يكون كذلك، ولكن لا يلزم من التعبير المفرد أن يقصد ظاهر ذلك، وهذا جاء وروده كثيراً، وقد جاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي موضع القدمين.

وقالوا: إن المقصود بالرجل جماعة من الناس الجبابرة ومن غيرهم، يجمعون ويسمون رجلاً، مثل ما يقال لجماعة الجراد: رجل جراد وهذه سخافة، وما يستحق مثل هذا أن يتكلم عليه.

وقالوا: القدم: هو ما يقدمه إلى النار، وكل هذه محاولات لرد الحق، وهي في الواقع لا تضر الحق شيئاً، وإنما تضر أصحابها.

والمقصود: أن نعرف شيئاً من تأويلاتهم الباطلة التي يؤولون بها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون: أولاً: الاستفهام في قوله: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:٣٠] لطلب الزيادة، وقد اختلف المفسرون في ذلك، وهذا هو أصح القولين فيه.

الثاني: أن جهنم تتكلم كلاماً حقيقياً، وقد جاء ذلك كثيراً في روايات غير ما ورد في الآية، كما في حديث المحاجة، وإذا جاء نص وجب حمله على الظاهر حتى يأتي دليل يدل على خلاف ذلك.

ثم إن وضع الرب جل وعلا رجله في النار من صفات الأفعال، والله جل وعلا يفعل ما يشاء، وهو جل وعلا على كل شيء قدير، فيجب أن نؤمن بذلك على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: (فينزوي بعضها إلى بعض) ، الانزواء: هو الاجتماع، تجتمع وتتضايق على أهلها وتبقى مملوءة بمن ألقي فيها؛ لأن الكفرة والشياطين انتهوا عند ذلك، وهذا يدلنا على سعة النار وعظمها، ومعلوم أن أكثر الناس كفرة، نسأل الله العافية، وكذلك الجن أكثرهم كفرة، والمؤمنون منهم قلة، ومع ذلك ينتهي آخرهم وجهنم تطلب الزيادة، فهذا دليل على سعتها العظيمة، وقد جاء أن النار يلقى الحجر على شفيرها ويبقى سبعين عاماً لم يصل إلى قعرها، وهذا يدل أيضاً على أنها دركات تذهب إلى أسفل في العمق، وليست كالجنة في السعة، وعذاب أهل النار يختلف.

وقوله: (فتقول: قط قط) ، هذا اسم فعل، يعني: قد امتلأت فليس فيّ اتساع لغير من وضعوا فيّ، فهذا الذي وعدها الله جل وعلا به ستتكلم به، وهذا أيضاً من الأدلة على أنها تنطق وتتكلم كلاماً حقيقياً، كما تكلمت الجنة، وإذا أراد الله جل وعلا للشيء -وإن كان ليس له عقل وليس له لسان ولا لهاة، ولا حنجرة، ولا غير ذلك- أن يتكلم تكلم، فهو إذا أراد أنطق كل شيء: {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:٢١] ، هكذا تقول الجلود والأسماع والأبصار.

كذلك جاء أنه جل وعلا يسبح له من في السموات والأرض، ولكن نحن لا نفقه تسبيحهم، والصواب أن هذا على ظاهره حقيقةً، فلا يؤول.

<<  <  ج: ص:  >  >>