للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تغيرّ الأقدار

أما ما جاء أن الأقدار قد تتغير: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر:١١] ، وفي الحديث: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) وأن الدعاء يعتلج مع البلاء حتى يرده وما أشبه ذلك، فهذا في الواقع ليس فيه إشكال، وكذلك قوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:٣٩] هنا يوجد محو ويوجد إثبات، وأخبر أن عنده أصل الكتاب، وأصل الكتاب ليس فيه محو ولا إثبات، والجواب عن هذا: أولاً: قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قال المفسرون: الضمير هنا يعود إلى غير المعمر (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ) أي: من عمر معمر آخر، يعني: ما يعمر من معمر فيكون عمره طويلاً، وكذلك لا ينقص من عمر معمر آخر فيكون عمره قصيراً: (إِلاَّ فِي كِتَابٍ) يعني: كل شيء مكتوب وليس نفس المعمر هو الذي ينقص من عمره، وقالوا: هذا مثاله أن تقول: عندي دينار ونصفه، فالنصف ليس هو نصف الدينار الأول، وإنما هو نصف دينار آخر، وهذا مثله.

وأما ما جاء في الحديث من أن الدعاء يرد القدر، وأن الصلة تزيد في العمر، فهذا ليس فيه معارضة؛ لأن الدعاء نفسه من القدر الذي قدره الله وكتبه، وقد علم أن هذا الشخص يدعو فيكون هذا الدعاء سبباً في صرف البلاء الذي لو لم يدع لأصابه، وكذلك الصلة فإن الصلة مقدرة ومكتوبة في الأزل: أن هذا الشخص يصل رحمه ويكون ذلك سبباً في زيادة العمر وقد كتب ذلك، وأن الآخر لا يصل ويكون ذلك سبباً في نقصان عمره، وليس كما يقول بعضهم: إن الإنسان يكتب له أجلان: أجل طويل فيما إذا وصل، وأجل قصير فيما إذا قطع، فيكون هذا فعل المتردد الذي لا يدري هل يقع هذا، أو يقع هذا؟ تعالى الله عن ذلك، وإنما الصواب أن هذا من باب ذكر الأسباب وخلقها، والأسباب مقدرة كلها، ثم قال عمر رضي الله عنه لما جيء إليه بسارق، وسأله: لم سرقت؟ فقال: هذا بقدر الله، فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله! فكل شيء مقدر، ولكن اللوم على الفاعل الذي يرتكب الجرم وهو الذي يستحق العقاب.

فالله تعالى: عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأزلي، ولا يقع شيء من أعمال العباد -وإن دقت- إلا وقد علمه الله وكتبه.

قوله: (وعلم جميع أحوالهم) أي: علم الأعمال التي سيعملونها، وهذا يشمل كل شيء: الشيء الذي يثابون عليه ويعاقبون عليه، والشيء الذي لا يثابون عليه ولا يعاقبون عليه، حتى اختلاج عروق الإنسان وحركتها بدون إرادته! فلا تقع حركة في هذا الكون إلا وقد علمها الله جل وعلا، وكذلك يعلم حركات الأشجار وسقوط أوراقها كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه في الآية رقم (٥٩) من سورة الأنعام، وكل ذلك علمه قبل وجوده بعلمه الأزلي القديم؛ لأن علمه كامل وتام لا يسبقه جهل تعالى الله، ولا يلحقه نسيان.

فالطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كلها معلومة له.

<<  <  ج: ص:  >  >>