[وقوله:(يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ] .
هذا الحديث في صحيح البخاري بهذا اللفظ، وكذلك في غيره، والمقصود به إثبات الكلام لله جل وعلا، وأن كلامه يكون بحرف وصوت، وصرح به هنا وإن كان النداء في لغة العرب لا يكون إلا بحرف وصوت؛ لأن النداء هو كلام من بعد؛ ولهذا خص العرب له حروفاً معينة، التي تقتضي مد الصوت كالياء والهمزة والواو؛ لأن مد الصوت يقتضي ذلك، وهذا أمر متفق عليه عند أهل اللغة ولا إشكال فيه، فيكون ذكر الصوت هنا من باب الإيضاح والتأكيد فقط، فينادي بصوت، وكونه ينادي آدم عليه السلام؛ لأن آدم هو أبو البشر، وتمام الحديث:(فيقول آدم: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول الله جل وعلا: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) يعني: من ذريته، فيكون واحد فقط من الألف من أهل الجنة، والباقي كلهم من أهل النار، وهذا مما يؤكد أن أكثر الناس كفار، وأن كثرتهم ليست متوازية مع أهل الجنة وأهل الخير، وإن كان أهل الجنة كثير، ولكن هؤلاء أكثر، عند ذلك قال الصحابة: وأينا ذلك الواحد؟ -يعني: اشتد هذا عليهم- فقال:(أبشروا، ما أنتم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو قال: كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض) ، وفي رواية أنه قال:(فإن من يأجوج ومأجوج ألف، ومنكم واحد) ، وهذا يدلنا على أن يأجوج ومأجوج يشمل الكفرة، فهم داخلون فيهم، والخطاب للصحابة رضوان الله عليهم، ولكن المؤمنون الذين يتبعونهم تبع لهم في ذلك بلا إشكال.
وقوله:(لبيك) هذه الكلمة جاءت على التثنية، ومعنى لبيك: أنا مجيب لك مرة بعد أخرى، أو أنا مقيم على طاعتك، أو أنا محب لك حباً يلازمني، عابد لك عبادة ملتزم بها.
(وسعديك) يعني: إسعاداً لك بعد إسعاد، كما في التلبية.
والمناسبة أن آدم هو أبو البشر فكلف أن يخرج بعث النار، والله جل وعلا إذا أمره بهذا، فإنما ذلك لأنه أبوهم، ومن وراء ذلك الأمور التي يشاؤها الله جل وعلا بتكليف ملائكته الذين يسحبونهم ويجرونهم، ويدعونهم إلى جهنم دعاً، مثل الذي يسوق الغنم بقوة، فلله ملائكة موكلون بذلك، وهذه أمور هائلة، ومن هنا يقول في هذا الموطن:(فذلك حين تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد) ، هذه المناظر هائلة ومخيفة جداً؛ لأن النار ليست سهلة نسأل الله السلامة! والمقصود من هذا أن الله جل وعلا يتكلم بصوت يسمع، والكلام صفة كمال، فالذي يتكلم أكمل من الذي لا يتكلم، ولكن كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق؛ ولهذا قال في حديث أنس:(فينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ، قال البخاري: هذا صفة كلام الله، فهو لا يشبه كلام الخلق؛ لأن كلام الخلق لا يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، ثم إن كلامه جل وعلا لا يلزم منه اللوازم الباطلة التي سبق أن ذكرنا أنها من شبهات وتغبير أهل البدع في وجه الحق، وأنه لا يضر الحق شيئاً، وهذا فقط من باب تضافر الأدلة، وقد جاء ذلك في كتاب الله في آيات متعددة تقرب من إحدى عشرة آية، فيها ذكر النداء لله جل وعلا، وأن الله ينادي.
[وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ] .
هذا أيضاً من الأحاديث التي فيها إثبات الكلام لله جل وعلا، ولكن هذا الكلام عام، وهو كلام عند المحاسبة، ولهذا قال:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) يعني: عند المحاسبة، فيناقشه الحساب، ويحاسبه عن أعماله، فإذا أراد الله تعذيبه ناقشه الحساب، فمن نوقش الحساب عذب، ولهذا جاء في تمام هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(اتقوا النار ولو بشق تمرة، ثم أشاح يوجهه) ، وقال:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، فهذا يدل على أن هذا التكليم عند المحاسبة.
أما ما جاء في بعض خلقه أنه لا يكلمهم، فيحمل نفي الكلام في ذلك على أنه كلام الرحمة والنعيم، وهذا يكون لأهل الجنة فقط، أما أهل النار فلا يكلمون، وهذا لا ينافي قوله جل وعلا لأهل النار:{قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:١٠٨] ، وكذلك في غير هذه الآية، وقد أخبر جل وعلا أنه يخاطبهم ولكن خطاب تقريع وتعذيب، وهذا يكون كلام محاسبة؛ لأنه جاء عاماً، فهو دليل على أنه جل وعلا يتكلم إذا شاء وقد سبق ذلك.