[فضل متقدمي الصحابة على متأخريهم]
وقوله: (ويفضلون من أنفق من قبل الفتح، وهو صلح الحديبية) ، هذا هو الذي نص عليه العلماء وبعض الصحابة مثل البراء بن عازب بأن صلح الحديبية هو الفتح، ومعلوم أن سورة الفتح نزلت في صلح الحديبية، وإن كان الصحابة رضوان الله عليهم كرهوا ذلك الصلح، ولكن صار الأمر كما قال الله جل وعلا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦] فصار خيراً، والحديبية لا تزال معروفة إلى اليوم، وكانت بئراً قليلة الماء.
وسبب الصلح -كما هو معروف- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في السنة السادسة من الهجرة ليؤدي العمرة ولا يريد قتالاً، ولما وصل إلى قرب مكة صده الكفار ومنعوه، ولما قارب دخول مكة بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء، فقال: (ما خلأت، وليس ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) ، وهذا لأن الله جل وعلا علم أن الكفار لن يأذنوا له بالدخول ولن يتركوه، وأنه لو بغتهم لحصل القتال، فعدل إلى جهة الحديبية فطلب من عمر بن الخطاب أن يذهب إلى قريش ويفاوضهم، ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا لأداء العمرة ولينحر الهدي الذي معه ويتركهم، فقال له عمر رضي الله عنه: إن ذهبت تقاتلت معهم وقتلوني، وليس هناك من يحميني، ولكن أدلك على رجل هو أمنع مني عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم.
فلما أرسله فشا الخبر بأنه قد قتل، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة المبايعة، فقال: (لا نبرح حتى نناجزهم) فبايعوه، وكان عددهم ألفاً وأربعمائة وزيادة، فقد جاء في حديث جابر الذي في الصحيح أنه قال: كنا ألفاً وأربعمائة، وجاء في حديث البراء أنهم كانوا ألفاً وخمسمائة، وجمع العلماء بين هذا وهذا بأنهم ألف وأربعمائة وكسر، فالذي قال: خمسمائة جبر الكسر والذي قال: أربعمائة ترك الكسر، وفي اللغة العربية يسوغ أن يترك الكسر في المئات.
والبيعة كانت على ألا يفروا، وبعضهم قال: على أن يقاتلوا حتى يموتوا أو يكون لهم النصر، والنتيجة واحدة؛ فإذا كانوا لن يفروا فلابد إما أن يقتلوا أو أن ينتصروا، وأما أن يبايعوا على أن يموتوا على كل حال فهذا غير مقصود، وإنما المقصود القتال، فإما أن تكون لهم الشهادة أو يكون لهم النصر.
ثم تبين أن خبر قتل عثمان غير صحيح، وإنما طلبوا منه أن يطوف بالبيت فأبى، وقال: كيف أطوف والرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع؟! فلم تسفر سفارته أو وساطته عن الصلح، ولكن صار عندهم تردد وأخذ واختلاف، فبعضهم يقول نتصالح، وبعضهم يقول: لا نتصالح، فصاروا يرسلون الرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أرسلوا أخيراً سهيل بن عمرو، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنهم يريدون الصلح، فقال: (سهل الأمر) ، فكتب الصلح بينه وبينهم على أن توضع الحرب عشر سنين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه منهم يرده إليهم، ومن يأتيهم من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يردونه إليه، وعلى أن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله عليه وسلم دخل.
وكانت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بنو بكر في عهد قريش، وصار نقض العهد بسبب هاتين القبيلتين كما هو معروف، فإن بني بكر أغاروا على خزاعة وأعانتهم قريش، فصار في ذلك نقض العهد.
فلما كان وقت كتابة الصلح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يكتب الصلح، فقال: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان، ولكن اكتب كما كنا نكتب، اكتب: باسمك اللهم، فقال صلى الله عليه وسلم له: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار قريش، فقال سهيل بن عمرو: لا تكتب: رسول الله، فإن كنت رسول الله وصددناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وقد كتبها علي رضي الله عنه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: امحها؛ الله يعلم أني رسول، فأبى علي بن أبي طالب أن يمحوها.
وقال: والله! لا أمحوها -أي: كلمة رسول الله- فقال صلى الله عليه وسلم: أرنيها؛ لأنه ما كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، فوضع أصبعه صلوات الله وسلامه عليه، عليها فمحاها، ثم كتب الصلح، وهم في أثناء كتابة الصلح جاء أبو جندل يرسف في حديده -وهو ابن سهيل بن عمرو - مقيد؛ لأنه مسلم، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة) .
والمقصود: أن هذا الصلح لما انتهى نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:١] إلى آخرها، وفيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح:١٨-١٩] إلى آخر السورة، نزلت بعد صلح الحديبية مباشرة، فرأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر فقرأها عليه، فقال: أوفتح هو؟ قال: نعم.
فهذا الصلح صار فيه فتح عظيم، حيث اتصل الناس بعضهم ببعض، ودخل العرب في دين الله أفواجاً بعد ذلك.
ثم في السنة الثامنة نقضت قريش العهد الذي كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغزاهم صلى الله عليه وسلم وفتح مكة، ولاشك أن فتح مكة أيضا فتح، وهو الذي جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم ( {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) .