للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معية الله جل وعلا للخلق هي بعلمه وإحاطته]

وقوله: {وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ:٢] ، العروج: هو ضد النزول، وهو الارتفاع والصعود: ((وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)) ، من الأعمال الصالحة، والملائكة والأرواح وغير ذلك مما يكون بأمر الله جل وعلا ولا نعلمه، بل الله جل وعلا يعلمه؛ فهو يعلم كل شيء.

وقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، هذا هو الشاهد الذي سيقت الآية من أجله، وهو أنه معنا تعالى أينما كنا، و (أين) يقال للمكان، كما يقال أين فلان؟ يعني: في أيّ مكان هو؟ فقوله: ((أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) أي: في أي مكان كنتم، فالله يعلمنا ويعلم حالنا ويعلم ما في قلوبنا.

والمقصود بهذا: بيان إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء.

وقوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) : زيادة بيان؛ لأنه بصير بكل عمل نعمله، والبصير مبالغة في العلم فهو يبصره بعد علمه المحيط به، ويعرف ويعلم حقيقته، وهل هو عمل صالح قد خلصت به النية أو أن النية قد انطوت على أمر آخر يفسد العمل؟ فهذه المعية لها مقتضى وهو المراقبة والخوف لقوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) ، يعني: اعلموا أن الله لا يخفى عليه من أحوالكم شيء، فراقبوه وخافوه وأصلحوا أعمالكم، ولتكن قلوبكم متجهة إلى الله، ومخلصة العمل لله، هذا مقتضى ذلك.

وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:٧] ، أول الآية يقول جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:٧] ، وهذه الآية يقول الإمام أحمد وغيره: إنها تدل على أن المعية يقصد بها العلم؛ لأنه بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧] ، فيقول: بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المقصود بالمعية هي العلم، وسيأتي الكلام على هذا.

فقوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ)) ، النجوى هي: الكلام الذي يكون بين اثنين وأكثر في الخفية، لا يريدون أن يطلع عليه غيرهم، فيقول جل وعلا: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ)) ، وهنا بدأ بالثلاثة، ولماذا لم يبدأ بالاثنين؟ لأنه جاء بالأعداد التي يمكن فيها الشفع والوتر، فالوتر في الثلاثة الذي لا يمكن أن ينقسم إلا على نفسه، والذي فيه الشفع هو ما بعده: ((وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ)) ؛ لأن هذا فيه الشفع والوتر، والأول وتر فقط، فصار شاملاً لجميع الأعداد، واكتفى بهذا عما عداه من الأعداد الأخرى، ومن لغة العرب أن المضاف في مثل هذه الأعداد إذا كان من جنس المضاف إليه فإنهم يقولون: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة، وسادس ستة، هذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، أما إذا كان المضاف من غير جنس المضاف إليه، فإنهم يقولون: رابع ثلاثة، وخامس أربعة، وسادس خمسة، ولهذا جاء هذا على مقتضى لغة العرب: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ)) ؛ لأنه تعالى وتقدس من غير جنسهم على ما تعارف عليه العرب، وما يعرفونه من لغتهم.

وقوله: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ)) ، وهذا محيط شامل للأقل والأكثر: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ)) ، فبين جل وعلا أنه مع كل أحد من الناس بالنجوى وغير النجوى، الكثيرين والقليلين، وأنه لا يخفى عليه مناجاة مناج، ولا تشغله عن علم مناجاة الآخر، ولا الاستماع لقول واحد عن الاستماع إلى قول الآخرين، وهذا من خصائص الله جل وعلا، ولهذا أراد منا جل وعلا أن نعلم قدرته على سماع كلام عباده واطلاعه على أعمالهم، فكل الذين في السماء وفي الأرض إذا اتجهوا يدعونه فإن كل قولهم يقع في سمع الله، ولا يخفى عليه منهم شيء، ولا يشغله استماعه إلى آخرين عن استماعه إلى البقية، وإن كانوا في آنٍ واحد، وهذا خلاف صفة المخلوق الضعيف؛ فإنه لا يمكن أن يستمع إلى قوم إلا واشتغل باستماعه إياهم عن الآخرين، ولا يمكنه أن يستمع لهذا ولهذا، فصفات الله جل وعلا على خلاف صفات عباده، وسيأتي الكلام على هذا في صفة النزول التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن الله ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر) .

وأورد بعض الذين لم يعرفوا صفة الله جل وعلا على هذا إيرادات باطلة لا ترد على صفات الله، وإنما ترد على صفات المخلوقين، فقالوا: إذا كان ينزل ثلث الليل الآخر فإن أثلاث الليل في الأقطار تختلف، فثلث ليل هؤلاء هو أول الليل عند أولئك، وثلث الليل عند هؤلاء هو نهار عند الآخرين وهكذا، فلزم على هذا أن يكون نزوله دائماً، هكذا قالوا، وهذا قول الذين -في الواقع- لم يعرفوا الله تعالى وتقدس، ولم يقدروه حق قدره، بل إنما قاسوا صفات الله جل وعلا على أوصافهم هم، تعالى الله وتقدس عن ذلك، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.

وقوله: ((وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)) ، هذا مثلما سبق أن (أين) يسأل بها عن المكان، ولهذا السبب قال الجهمية: إن الذين يعتقدون قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟) ، يسمونهم: أينية، والأينية نسبة إلى هذا اللفظ، وهذه التسمية عندهم من باب الاحتقار والاستهانة بهم وذمهم على ذلك، وكم ذموا أهل السنة بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم! والعيب لهم هم وليس لأهل السنة، فأهل السنة يفتخرون بذلك؛ لأنهم يقولون بما قاله الله وبما قاله رسوله، فإذا سموهم أينية أو سموهم مجسمة أو مشبهة أو ما أشبه ذلك فإنه لا يضرهم هذا ولا يضيرهم، ولا يهمهم التسميات إذا كانوا متمسكين بقول ربهم وقول رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن العداوة تحدث بسبب هذه المخالفات؛ لأن العداوة الحقيقة هي عداوة العقائد، فإذا كان الإنسان يخالفك في عقيدتك فهو يعاديك أشد العداوة، فهذه العداوة العقدية ليست كالعداوة لأجل مال أو لأجل اختلاف وجهة نظر أو ما أشبه ذلك، ولهذا تجد أن ما بين المسلمين واليهود من العداوة متأصلة، وما بين اليهود والنصارى من العداوة أشد؛ لأن هذه العداوة في العقيدة.

وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) ، شيء هنا نكرة، فلا يخرج عن علمه شيء من الأشياء، وهذا عموم مطلق لا يجوز أن يخصص بشيء، كقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:١٢٠] ، أما التقديرات التي يقدرها أهل الوساوس والشكوك فلا قيمة لها، فإنهم يقدرون أشياء مستحيلة وأمور ممتنعة، الأمور الممتنعة ليست بشيء، ولا تسمى شيئاً؛ لأنها عدم، والعدم ينقسم إلى قسمين: عدم مطلق قد علم الله جل وعلا أنه لن يكون ولا يكون، فهذا لا يسمى شيئاً، وعدم مقيد، يعني: كان عدماً ثم وجد، فهذا يسمى شيئاً في علم الله وكتابته، ولكنه في الوجود لا يكون شيئاً حتى يوجد، وهذا كما قال الله جل وعلا: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:١] ، أي: شيئاً مذكوراً مشاهداً ومرئياً في الوجود، ولكنه شيء في علم الله وكتابته، فهذا هو المعدوم المقيد.

وأما المعدوم المطلق فليس بشيء مطلقاً، ومن هذا القبيل ما يقوله أهل الوسوسة: هل الله جل وعلا يقدر على أن يخلق مثل نفسه؟ هل الله تعالى يقدر على أن يعدم نفسه؟! ويقول الشكاك: أنا موجود في ملك الله، فهل الله يستطيع أن يخرجني من ملكه؟! هذه وساوس لا حقيقة لها، وهي مثل كون الإنسان حياً ميتاً في آنٍ واحد، وهذا لا حقيقة له، ومثل كونه قائماً جالساً في آنٍ واحد، وكونه متحركاً ساكناً في آنٍ واحد وفي لحظة واحدة، هذا عدم مطلق؛ فهو مستحيل، والمستحيل لا يدخل في مسمى الشيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>