[أمثلة تدل على علو الله على خلقه]
قوله: (بل القمر آية من آيات الله من أصغر المخلوقات) هنا يضرب لنا مثلاً ولله المثل الأعلى، فالقمر صغير بالنسبة للمخلوقات في السماوات وفي الأرض، فهو بالنسبة للسماء، من أصغر المخلوقات وهو موضوع في السماء، والمقصود بالسماء العلو بحيث لا يستطيع الإنسان أن يتناوله؛ لأنه بعيد جداً، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم.
فإذا كان القمر مثلاً من مخلوقات الله الصغيرة وهو يشاهد في السماء، ويصح أن يقول الإنسان -سواء كان مسافراً أو مع الناس مجتمعاً-: القمر معنا، وهو منفصل عنه بعيد عنه، فكذلك رب العالمين أولى -وله المثل الأعلى- أن يكون فوق عرشه وهو مع خلقه.
وأصل هذا المثل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في السنن المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الله يكلمكم يوم القيامة، كل واحد يكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا واسطة ولا حاجب يحجبه، قال أبو رزين العقيلي: كيف ذلك يا رسول الله! وهو شخص ونحن كثيرون؟ فقال: أخبرك بآية من آيات الله جل وعلا؛ هذا القمر تشاهدونه في السماء، كل واحد منكم يستطيع أن يخاطبه أو يشاهده مخلياً به، فالله أكبر وأعظم) ، وهذا تقريب للأذهان فقط، وإلا فهو آية من آيات الله جل وعلا، والله جل وعلا لا يقاس بالمخلوقات ولا بشيء من المخترعات وإن كان كبيراً، فالله أكبر وأعظم.
وقوله: (وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه) ، الرقيب: هو الذي يطلع على الشيء ولا يخفى عليه شيء منه، يراقبه ببصره ونظره وكذلك بسيطرته عليه، فيراقبه في جميع تصرفاته، فالله رقيب على خلقه يشاهدهم ويسمع كلامهم، ويعلم ما انطوت عليه قلوبهم من النيات، فهو يعلم السر وأخفى، فالسر الذي يكون في قلب الإنسان ولم يتكلم به يعلمه الله عز وجل، والشيء الذي لم يكن ولكنه سيكون؛ فإن الله يعلم أنه سيكون كذا وكذا في وقت كذا وكذا، كذلك في قبضته لهم فإنهم لا يعجزونه، وإذا أراد أخذهم أخذهم، وهو على كل شيء قدير.
وقوله: (مهيمن) ، المهيمن: على وزن مفيعل، وليس هذا من باب التصغير، فإن أسماء الله جل وعلا لا يجوز أن تصغر، والهيمنة هي المشاهدة، فلا يخفى عليه شيء وهم في قبضته وإحاطته، ولا يخرج عن هيمنته من ذواتهم ولا من تصرفاتهم شيء، تعالى الله وتقدس، وهذا كله مما يبين معنى المعية.
قوله: (مطلع عليهم) من الاطلاع وهو النظر.
(إلى غير ذلك من معاني ربوبيته) يعني: أن هذه من معاني الربوبية؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الخالق الذي لا يعجزه شيء.
ثم قال: (كل هذا الكلام الذي ذكره الله سبحانه من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم) يعني: أن قوله: (وهو مستو على عرشه وهو فوق خلقه) أنه على ظاهره حق على حقيقته، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وقوله: (وهو معكم) ظاهر على حقيقته ولكن الحقيقة اللغوية والمعنوية التي دلت عليها اللغة، وليس الحقيقة التي يقولها من انحرف وفسد تصوره، ولهذا قال: (لا يحتاج إلى تحريف) ، يعني: إلى تأويل، كقول القائل مثلاً: كونه معنا يوهم أنه داخلٌ في العالم فيحتاج إلى أن نؤوله، ونقول: هذه المعية يقصد بها ملائكته الذين كلفهم بحفظ كلام الناس وأعمالهم، كل هذا لا يحتاج إليه، بل هو جل وعلا معنا بمعيته وهو على عرشه، ولا يجوز أن نقول: إنه معنا بذاته؛ لأنه إذا قيل بالذات فالذات معناها: أنه مختلط بالناس، تعالى الله وتقدس! فذاته على عرشه، ولكن مخلوقاته بالنسبة إليه صغيرة حقيرة.
وكل ذلك على ظاهره، ولا يحتاج إلى أن نقول: إنه العلم فقط، بل العلم والهيمنة والرقابة والشهود، وغير ذلك من معاني هذه الصفة التي وصف بها نفسه.
وقوله: (ولكن يصان عن الظنون الكاذبة) ، الظنون الكاذبة: إما أن تكون منشؤها من الجهل أو من فساد التصور، ومثل لذلك بقوله: (كأن يظن بأن معنى قوله: (وهو في السماء) أن السماء تظله) ، ومعنى تظله: يعني تكون فوقه، مثل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إلى السماء الدنيا، فإنه قد يظن ظان أن السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي يكون فوقه تعالى الله وتقدس، فهذا الظن باطل وكاذب، إن نقله عن أحد من الناس فهو كاذب في نقله، وإن ظنه هو فهو باطل في ظنه، وضال في عقيدته، فيجب أن تصان معاني صفات الله جل وعلا ومعاني كلامه عن الظنون الفاسدة والتصورات الباطلة.
ثم بين أن هذا يقرب بقدرة الله جل وعلا؛ لأن الإنسان لا يحيط بالله جل وعلا، ولا يحيط بمعاني صفاته وإنما يتصور المخلوق مثله، أما معاني صفات الله جل وعلا فهي على خلاف ذلك، فقرب المعنى بذكر عظمة الله، فقال: وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:٤١] يمسكهما بقدرته تعالى وتقدس، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال في السماء: إنكم ترونها بلا عمد تعتمد عليها، ولكن الله ممسكها بقدرته جل وعلا، وهو جل وعلا غير محتاج لا للعرش ولا لغيره، وإنما العرش يحتاج إليه تعالى وتقدس.