للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن)]

وقوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣] .

أولاً: مقصود المؤلف بهذا الآية: أن القول في الصفات بلا علم من أعظم المحرمات، وأن الله حرم هذا، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في صفة من صفات الله أو في اسم من أسمائه وليس عنده في ذلك برهان، فإن ارتكب ذلك فقد وقع فيما هو أعظم من الشرك، هذا مراده من إيراد الآية.

والآية فيها أمور كثيرة: فقوله: ((قُلْ)) هذا أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول، وقد استدل العلماء بهذا على أن القرآن كلام الله، ووجه ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له في هذا دخل إلا البلاغ، فقيل له: ((قُلْ)) فقال كما قيل له، فأدى الذي جاءه به جبريل، لم ينقص منه حرفاً واحداً؛ لأن هذا أمر موجه إليه، قال الله جل وعلا له: ((قُلْ)) فقال كما قال الله له، لم ينقص حرفاً واحداً، مع أن هذا في الظاهر خاص به، ولو قال مثلاً: (إنما حرم ربي الفواحش) وترك كلمة ((قُلْ)) يكون قد أدى ما أمر به، ولكنه لم يترك حرفاً من قول الله جل وعلا، فقال كما قيل له، ولهذا لما سئل عن ذلك، قال: (قيل لي: ((قُلْ)) فقلت كما قيل لي) ، وهذا دليل واضح على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أدى كل ما سمعه من جبريل تاماً بلا نقص، ولهذا اتفق العلماء على أن ما بين دفتي المصحف كله كلام الله، لا يجوز أن ينقص منه حرف ولا يزاد عليه حرف، فمن فعل ذلك لا يكون مسلماً.

وقوله: ((إِنَّمَا)) : هذه أداة حصر كما هو معروف، يعني أنها تحصر المحرمات فيما ذكر، وتخرج التحريم عما عدى ذلك، ولا يكون هذا دليلاً على أن المحرمات محصورة فيما ذكر؛ لأنه إذا جاء دليل آخر فيه زيادة على ذلك فلا يكون ذلك نص على القول الصحيح، بل يكون زيادة أمر وتشريع آخر، كما هو معروف.

((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي)) : والتحريم في اللغة: هو المنع والحظر ويكون من الله جل وعلا على نوعين: الأول: تحريم قدري كقوله جل وعلا: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٩٥] ، حرام أي: قدراً وكوناً.

الثاني: تحريم شرعي، كما في هذه الآية، فالتحريم الشرعي هو الذي حرمه على عباده، يعني: هو الأمر الذي يأمر به، فما أمر الله جل وعلا به ونهى عنه عباده فهو محرم.

أما في الاصطلاح فالمحرم: هو ما أثيب تاركه وعوقب فاعله، وهذا في اصطلاح الفقهاء، أما مجرد الترك بدون أن يكون تركه لله فلا يثاب عليه؛ لأنه قد يكون عاجزاً عن فعله، وقد يكون غير متمكن، وقد يكون لا يريده، فلا يكون بذلك مثاباً على الترك حتى يتركه لله جل وعلا، امتثالاً لنهي الله جل وعلا.

((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ)) الفواحش: هو كل ذنب كبر في نفسه، وفحش في نظر وفطر الناس الذين لم تتغير فطرهم، وإلا فالإنسان قد يكون أسوأ من البهيمة وأخبث منها، فتصبح الفاحشة عنده ليست فاحشة، بل هي مستساغة، وكما يقع لأهل الانحلال من الأمور القبيحة حتى الانحلال من الأخلاق، فيصبح الإنسان بهيمة، كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٤-٥] ، فرده أسفل سافلين نهايته جهنم، ولكنه في الدنيا يكون أسفل من الحيوان وأحط منه، ويكون الحيوان أرفع منه وأحسن، وهذا من الرد إلى الأسفل، فالفواحش: هي ما فحش في نفسه بأن كبر وعظم، وكذلك فحش في فطر ذوي الفطر السليمة وأذواقهم، وكذلك في شرع الله جل وعلا وأمره، فعلى هذا يشمل جميع المحرمات المعظمة، وبعضهم يطلقه على ما فيه شهوة وليس لازماً.

وقوله: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) ، فسر أن ما ظهر: ما أعلن ورئي وصار مكشوفاً يراه الناس، وما بطن: ما أسره الإنسان وفعله في الخفية فكله محرم، ويقول المفسرون: السبب في هذا أن المشركين كان عندهم في فطرهم وأذواقهم أن الزنا يكون فاحشة إذا كان ظاهراً، أما إذا كان في السر فليس فاحشة، ولا يلام الإنسان عندهم عليه! فلهذا قال: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) ، هذا على قول.

وقيل: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا)) : ما فعل بالجوارح بالأيدي والأبصار والأسماع، يعني: نظر إليه بالبصر أو استمع إليه بالأذن كالغناء والمزامير وما أشبه ذلك، وكذلك ما يتناول باليد أو مشي إليه بالرجل، يعني: ما فعل بالجوارح، هذا في قوله ما ظهر، وقوله: ((وَمَا بَطَنَ)) أي: ما انطوى عليه القلب من النيات والمقاصد، فإن النيات قد تكون الذنوب فيها أعظم من الذنوب في الجوارح.

والصواب: أنه يشمل هذا وهذا، وكله داخل في معنى الآية، ما ظهر وما بطن: يشمل السر والعلن، ويشمل ما فعل بالجوارح والنيات والمقاصد، وانطوت عليه القلوب.

قوله: ((وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) : الإثم والبغي: مقترنات وأحدهما يدخل فيه الآخر، فإذا جاءا مقترنين تداخل المعنى وصار قريباً بعضه من بعض، ولهذا قال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢] .

أما من ناحية المعنى كإفراده فالإثم: كل ما يحصل به ذنب يترتب عليه عقاب، فكل ما حصل عليه عقاب فهو الإثم، أما البغي: فهو ما حصل فيه تجاوز وتعدي، فيكون أخص من الإثم، ولهذا لما ذكر جل وعلا حل الميتة للمضطر قيده بذلك؛ لأنه غير متعدٍ أي: لا يتعدى الشيء الذي يسد رمقه ويقوم بحياته، فإن تعدى ذلك فقد ارتكب المحرم.

وكذلك البغي يكون في حق الله، ويكون في حق الإنسان، ففي حق الإنسان يلزم منه الظلم؛ لأنه قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون أيضاً بالفعل الذي لا يكون لا باليد ولا باللسان، وكله ظلم وتعدٍ؛ لأنه تعدى الشرع، فكل ما كان فعلاً وتعدي به المشروع فهو من التعدي ومن البغي، وقد فسر بعض العلماء الإثم بذنب خاص وهو شرب الخمر، فهي تسمى إثماً، كما جاء في بيت الشعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تضل به بالعقول الإثم: يعني: الخمر، والصواب أنها ليست هي المقصورة بالإثم، ولكنها داخلة فيه، فهي أم الخبائث، وهي داخلة في الإثم؛ لأنها تدعو إلى الإثم وتجر إليه كما هو واضح.

وقوله: ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) : قيد للتعدي، أما إذا حصل التعدي الذي فيه تجاوز الحق الذي يكون للمخلوق على الآخر، فإن هذا قد يكون بحق؛ لأنه ظلم، واستحق أن يتجاوز، وهذا من باب المقابلة فقط، وفي الشرع لا يعد بغياً، لهذا قيده بقوله: ((بِغَيْرِ الْحَقِّ)) .

السلطان: المقصود به: الحجة والبرهان والدليل، والحجة والبرهان والدليل ألفاظ مترادفة، بعضها يقوم مقام الآخر.

والسلطان يستعمل في استعمالات ثلاثة: الأول: أنه يأتي بمعنى الحجة كما في هذه الآية.

الثاني: أنه يأتي بمعنى السيطرة، كقوله جل وعلا في إبليس أنه ما كان له على المؤمنين من سلطان: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:١٠٠] ، فليس له على المؤمنين سلطان، يعني: ليس له سيطرة عليهم، وليس له قوة ولا قهر، وإنما سلطانه وقهره على الذين يتولونه بأن يطيعوه ويتركوا أمر الله جل وعلا.

الاستعمال الثالث: بمعنى: الملك، لهذا خص الله جل وعلا نفسه بذلك، فهو ذو السلطان القديم جل وعلا، فله الملك التام والسلطان الكامل.

وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:٣٣] : يقول العلماء في هذه الآية: إنها تخرج مخرج الغالب، وإلا لا يوجد شرك أنزل الله جل وعلا به سلطاناً أصلاً، فكل الشرك لم ينزل الله جل وعلا به سلطاناً، فهذا القيد غير مراد، فكل شرك محرم، ولم ينزل به الله جل وعلا سلطاناً.

والشرك أنواع، وقد علم أنه قسمان: أكبر وأصغر، أما تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، فالثالث لا يخلو أن يكون داخلاً في الأكبر أو الأصغر الذي هو الخفي.

والخفي: إما أن يكون أصغر، وإما أن يكون أكبر، فلا يكون التقسيم خارجاً عن القسمين.

والأكبر: هو أن يجعل شيئاً مما هو من خصائص الله ومن حقه للمخلوق، فكل حق أوجبه الله جل وعلا على عباده إذا صرف منه شيء للمخلوق فقد وقع ذلك الصارف في الشرك الأكبر.

أما الأصغر فحده بالنصوص، فما جاء في النص: أنه سمي شركاً أصغر فهو الشرك الأصغر، وإلا لا ضابط له، أما كونه يضبط: بأنه كل وسيلة توصل إلى الشرك الأكبر فليس بصحيح، ولهذا يحده كثير من العلماء بالأمثلة، فيقولون: كيسير الرياء، وكقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ولولا الله وفلان، والحلف بغير الله، وهذا ليس مطلقاً؛ لأن هذه الأشياء قد تكون شركاً أكبر حسب ما يقوم في نفس الإنسان.

ويفارق الشرك الأصغر الشرك الأكبر بأمور: الأول: أنه لا يخرج من الدين الإسلامي بالاتفاق.

الثاني: أن الشرك الأصغر على القول الصحيح داخل تحت المشيئة، يعني: كسائر الذنوب يغفره إذا شاء، هذا على القول الصحيح.

الثالث: أن المشرك شركاً أصغر إذا مات لا يكون حكمه حكم المشرك شركاً أكبر بأن يكون خالداً في النار، بل قد يعذب وقد لا يعذب، ثم يكون مآله الجنة، وهناك فروق أخرى معروفة ظاهرة.

والشرك الأكبر أقسام كما هو معلوم؛ لأنه قد يتعلق بذات الله، وقد يتعلق بصفات الله، وقد يتعلق بحقوقه، ولكن المشهور المعروف ما يتعلق بحقوقه، وقد جاء في القرآن تقسيمه إلى أربعة أقسام: الأول: شرك الدعوة، الثاني: شرك الطاعة، الثالث: شرك الدعاء، الرابع: شرك المحبة، وكلها مذكورة في آيات معروفة مشهورة، في كتاب الله جل وعلا والتفصيل ليس هذا محله.

وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣] ، يعني: وحرم عليكم أن تقولوا عليه ما لا تعلمون، وهذا هو الشاهد من الآية وهو المراد من إيرادها.

فالكلام في صفات الله أو في أسمائه بلا دليل شرعي ج

<<  <  ج: ص:  >  >>