[العرش أول المخلوقات]
فمعنى ذلك: أن هذا استواء خاص فعله الله جل وعلا بعد الخلق، ولا يلزم من ذلك: أنه لم يكن مستوياً على عرشه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض.
ومن المعلوم: أن العرش هو أول المخلوقات، وهذا هو الصواب، بل هذا هو الذي دلت عليه النصوص.
وأما القلم الذي ورد في حديث عبادة وغيره: (أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فالمقصود بهذا: الإخبار بالكتابة أنها وقعت بعد الخلق مباشرة بدون فاصل، يعني: أن الله جل وعلا لما خلق القلم قال: له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن، ولهذا جاء في القرآن: أنه جل وعلا ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض، فعلى هذا يكون العرش أول المخلوقات المعلومة لنا، والعرش معه الماء؛ لأنه على الماء، أما أن نقول: إن الله مستوٍ على عرشه، قبل خلق السماوات والأرض فهذا لم يأت فيه نص، ولكن هذا هو الظاهر.
فيكون استواؤه -الذي ذكر لنا لنعتقده ونؤمن به- بعد خلق السماوات والأرض، ولهذا رتبه عليه بلفظ: (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، والملك والأمر لله جل وعلا.
وهذه المخلوقات التي ذكرها الله جل وعلا من السماوات والأرض والعرش والماء هي التي نعلمها من المخلوقات، أما ما قبلها فشيء لا علم لنا به ولا يعلمه إلا الله؛ لأنه معلوم قطعاً أن العرش وجد بعد أن لم يكن موجوداً والماء كذلك وجد بعد أن لم يكن موجوداً؛ لأنه مخلوق، وكل مخلوق معين سبق بالعدم ولابد.
أما الأولية التي لا نهاية لها ولا مبدأ لها فهي لله وحده جل وعلا، ولكن لا يجوز أن يعتقد أن الله كان ولا فعل له ولا صفة له، ثم بعد ذلك صار متصفاً بالصفات؛ لأن هذا نقص، والله يتعالى عن ذلك، وقد قال جل وعلا: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٦] ، ولا يجوز أن يكون هذا في وقت دون وقت، بل هو يفعل ما يريد، وهذا هو المعنى الذي ذكره العلماء في مسألة التسلسل.
وقد اختلف العلماء في مسألة التسلسل، وخلاصتها: أن التسلسل في الحوادث في الماضي والمستقبل في أفعال الله التي تتعلق بمشيئته وصفاته واقع فضلاً عن أن يقال: إنه جائز، بل واجب.
أما التسلسل في الفاعلين فهذا مستحيل وممتنع كما هو معلوم، وأما الحديث الذي في صحيح البخاري حديث عمران بن حصين وفي أول الحديث يقول عمران: (أتيت على راحلتي فعقلتها عند باب المسجد، فدخلت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بنو تميم فقال: أبشروا، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل أهل اليمن، فقال: يا أهل اليمن! اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم، فقالوا: قبلنا، جئناك نتفقه في هذا الدين، ونسألك عن مبدأ هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله) ، وفي رواية: (ولم يكن شيء غيره) ، وفي رواية: (معه) .
هذه الروايات الثلاث ثابتة ثبتت: (قبله) و (غيره) و (معه) ، ولكن المقام واحد، يقول عليه الصلاة والسلام: (كان الله ولم يكن شيء قبله، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، يقول عمران: فجاءني آتٍ فقال: أدرك ناقتك فقد ذهبت، فخرجت فإذا السراب يتقطع دونها، وأيم الله! لوددت إني تركتها ولم أقم) ، هذا الحديث لم يروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمران بن الحصين فقط، ولم يأت في رواية أخرى عنه الاستواء: صفة فعل تتعلق بمشيئة الله جل وعلا، فصفات الأفعال هي صفات كمال، فالصفات تنقسم إلى قسمين: صفة ذات وصفة فعل، وهذا التقسيم دل عليه كتاب الله جل وعلا، وهو أمر قطعي.
والفرق بين صفة الذات وصفة الفعل: أن الصفات التي لا تفارق الذات، وتكون ملازمة للذات دائماً كالحياة والعلم والسمع والبصر وما أشبه ذلك تسمى صفة ذات؛ لأنها تكون ملازمة لذات الله جل وعلا أبداً، ولا يجوز أن يكون خالٍ منها في وقت من الأوقات، تعالى الله وتقدس.
أما الصفات التي تتعلق بمشيئته؛ إذا شاء فعلها، وإذا شاء لم يفعلها، فهذه تسمى صفة فعل، وهي من صفات الكمال، ولا فرق بين النوعين من حيث الاتصاف والثبوت، فكلها ثابتة لله جل وعلا، وكلها يتصف الله جل وعلا بها، ولكن الله جل وعلا له غاية الكمال المطلق، كما قال الله جل وعلا: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:١٦] ، وهذا من صفات كماله جل وعلا وهو خاص به، لا يوجد من يفعل ما يريد إلا الله جل وعلا، فالخلق كلهم يريدون أشياء، ولكن ما يستطيعون فعلها؛ لأن الأمر كله بيد الله جلا وعلا.
ثم إن الاستواء جاء خاصاً بالعرش فقط، فلا يقال: استوى على السماء استوى على الأرض استوى على كذا هذا لا يجوز؛ لأنه جاء خاصاً بالعرش.
وذكر المؤلف أنه ورد في سبعة مواضع من كتاب الله؛ ليبين أن هذا لا يجوز تأويله، ولا يمكن تأويله، حيث أنه جاء في نصوص لا تحتمل التأويل، فمؤولها يكون محرفاً، والتأويل فيها يكون تحريفاً وليس تأويلاً.