للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أقسام الناس في المرور على الصراط]

والناس أقسام: منهم من يؤمر به إلى جهنم من أول الأمر، وهؤلاء هم الكفار الذين لا يقيم لهم الله جل وعلا وزناً، فليس لهم حسنات، وإنما هم كفرة.

ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء أيضاً ليسوا كثيرين بالنسبة للناس، وإنما هم قلة، ولهذا عدهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه الأمة منها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ، وسبعون ألفاً بالنسبة للأمة من أولها إلى آخرها قليل جداً، وهذه الأمة هي أكثر الأمم دخولاً الجنة، وأكثرها إيماناً، وهي أيضاً أكرم الأمم على الله؛ فإن هذه الأمة أول من تنشق عنها قبورها، وأول من يسبق إلى الموقف إلى المكان المرتفع فيه، وأول من يسبق إلى ظل العرش، وأول من يعبر الصراط، وأول من يدخل الجنة.

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) ولكن هذه الخيرية للمؤمنين، أما الكفرة والمجرمون فهم أشد الناس عذاباً؛ لأن الذي يكفر بأفضل الرسل وبأفضل الأديان يستحق أشد العقاب.

ثم العبور على الصراط عبور بالأعمال، ولهذا قال: (فمنهم من يمر كلمح البصر) يعني: عبوره فوق الصراط في السرعة مثل ما يغض الإنسان بصره.

(ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح -أي: في السرعة-) ، ومنهم من يمر كالطير ثم كأجاود الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو ويزحف، ومنهم من يسقط مرة وتتعلق يده الأخرى، وتسقط رجله وتتعلق الرجل الأخرى وهكذا.

ومنهم من يخطف من على الصراط؛ لأن الصراط كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليه كلاليب وحسك.

ثم قال: أتدرون ما الحسك؟ شويكة تكون في نجد هل رأيتموها؟ قالوا: نعم.

قال: إنها مثلها غير أنه لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا) ، ومعنى ذلك: أن عليه كلاليب معطفة موكلة بأناس معينين تمسكهم وتلقيهم في النار، فمنهم من يخدش، ومنهم من يكردس في النار، ومنهم من يبقى وقتاً طويلاً يسير على الصراط، فإذا نجا التفت وقال: تبارك الذين نجانا منك - يخاطب النار! - لقد أعطانا الله شيئاً لم يعطه أحداً من العالمين يقول هذا مع أن المؤمنين قد سبقوه بكثير جداً، ولكن الذي ينجو من النار يكون قد أعطي شيئاً عظيماً جداً، وكل أحد سوف يعبر عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:٧١] و (واردها) يعني: يرد جهنم.

وهذا قسم من الله جل وعلا، أقسم على أن كل الخلق سيردون جهنم، ولكن الورود لا يقتضي الدخول؛ لأنه قد يكون للمعاينة والمشاهدة، ولكونه وصل إلى الشيء وكاد يسقط فيه، ولهذا قال جل وعلا بعد ذلك: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:٧٢] ، فالذي يعبر الصراط هم المتقون فقط الذين يتقون ربهم، وهذا أيضاً من الأمور التي يجب الإيمان بها كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أنكر ذلك فإنه يكون ضالاً.

والناس يمرون عليه على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس، أي: كركض الخيل، ومنهم من يمر كركض الإبل، ومنهم من يمر كركض الرجل، ومنهم من يكون ماشياً، ومنهم من يكون زاحفاً وحابياً على حسب الأعمال؛ لأن المرور بالأعمال.

ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، أي أن الإنسان إذا كان قد ارتكب من الخطايا والذنوب التي يستحق بها دخول النار ولم يعف الله عنه خطف من على الصراط وألقي فيها.

وقوله: (فمن مر على الصراط دخل الجنة) يعني أن الذي يعبر عليه قد نجى من النار، وأعطاه الله جل وعلا فضلاً عظيماً، ومنَّ عليه منّةً كبرى.

فإذا عبروا، أي: انتهى المؤمنون من عبورهم حبسوا في صراط آخر اسمه (قنطرة) والقنطرة: هي الشيء المرتفع.

وقد يكون بناءً، وقد يكون على شيء يعبر وهو تحت القنطرة، وقد يكون مرتفعاً فقط، وبعض العلماء يقول: إن هذه القنطرة هي بقية الصراط، وهي امتداده من جهة الجنة؛ لأن الجنة في السماء، والنار يؤتى بها في ذلك اليوم في الموقف، والموقف يكون في أرض ليست هذه، وإنما أرض بيضاء نقية لم يعمل عليها خطيئة، ولم يعص الله جل وعلا عليها، وأما هذه فإنها تبدل وتزال، والله جل وعلا يغير الكون كله ويبدله، فيوقفون على هذه القنطرة ويحبسون، ثم يقتص لبعضهم من بعض في المظالم التي عليهم، وهذا القصاص يكون من المظالم التي علم الله جل وعلا أنها لا تأتي على حسناتهم، وإنما يفضل لهم حسنات يدخلون بها الجنة، فيؤخذ لكل مظلوم من ظالمه في ذلك الموقف، وهذا القصاص في هذا المكان خاص بالمؤمنين الذين يدخلون الجنة، أما الظلمة والكفرة فإن الاقتصاص منهم يكون قبل الصراط، فإذا نُقوا من جميع المظالم وهُذبوا وطُهورا أُذن لهم في دخول الجنة، وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينزع ما في قلوبهم من غل، أي: كل ما كان لبعضهم على بعض من أحقاد أو أمور تغري فإنه يُنزع من قلوبهم بعد المقاصة والمحاصة، ثم بعد ذلك يؤذن لهم في دخول الجنة.

<<  <  ج: ص:  >  >>