[وسطية الفرقة الناجية في أفعال العباد]
قوله: (وفي أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية) ، هؤلاء الذين هم المعتزلة يسمون القدرية، وسموا قدرية لإنكارهم القدر، فقابلوا الجبرية، ومعلومٌ أن مذهبين متقابلين لا يمكن أن يكونا صحيحين، هذا مستحيل! فيقطع قطعاً لا تردد فيه أن أحدهما على الأقل باطل؛ لأن هذا يقابله تماماً، ولكن الواقع أن كل واحد من الفريقين معه شيءٌ من الحق ومعه شيءٌ من الباطل؛ ولهذا السبب قال: إن أهل السنة وسطٌ بينهم، فهذا معنى الوسط أي: أنهم توسطوا، فأخذوا الحق الذي مع الفريقين واجتنبوا الباطل الذي مع الفريقين، وهكذا في بقية ما ذكر، أنهم وسطٌ بين كذا وبين كذا.
وذلك أن سبب خفاء الحق على كثيرٍ من الناس لبسه بالباطل، فيلتبس على من ليس عنده تمييز، ويخيل له أنه الحق، وهو في الواقع حقٌ خلط بباطل، فمن هنا لما قال الجبرية: إن العبد مجبورٌ على فعله، فهم نظروا إلى أن الله جل وعلا مشيئته هي النافذة في كل شيء، وأنه ليس لأحد مع الله تصرف، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقالوا: إن الله جل وعلا نفى بعض ما هو فعلٌ للإنسان وأخبر أنه فعله، كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:١٧] ، فنفى الرمي الذي هو حركة اليد والقذف بها عن العبد وأثبتها لله جل وعلا، فدل ذلك على أن أفعال العباد كلها أفعالٌ لله.
ومعلومٌ أنه لو طرد هذا المذهب لصار كل شيءٍ على نمط واحد، يعني: أنه لا يكون هناك معصية؛ لأنها أفعال الله، وقد طرده كثيرٌ ممن اعتنق هذا المذهب من الصوفية وغيرهم، فلهذا يقول أحدهم: أصبحت منفعلاً لما يراد بي، ففعلي كله طاعات، لماذا؟ لأن فعله هو فعل الله، ويقول أحدهم: أنا وإن عصيت أمره الشرعي، فقد أطعت أمره القدري الكوني، فأنا في طاعة، يعني: حتى إذا زنا وسرق فهو في طاعة؛ لأنه موافقٌ أمره الكوني، فهو لم يخرج عن تكوينه ومشيئته، فإذاً: يكون العبد ليس له تصرف ينسب إليه.
ومعلومٌ أن مثل هذا من أبطل ما يكون، حتى أمور الدنيا لا تستقيم عليه؛ لأن الإنسان لابد أن يحاسب بعمله، ويحاسب على تصرفاته، وإلا فكل إنسان يقول: ليس هذا فعلي، وهذا فعل غيري، والمصيبة أنهم يضيفونه إلى الله، ولهذا يقال: إن علاج مثل هذا أن يقابل صاحبه بالفعل كأن يضرب ويقال له: مذهبك أن الضارب ليس له تصرف، فلا تلمه، فهل يمكن أن يسكت؟! هذا لا يمكن ولابد أن يرجع الإنسان إلى تصرفاته.
أما الذين قابلوهم فقد أخذوا بمثل هذه الآية ونحوها، فوجه خلط الحق بالباطل في هذا أنهم جعلوا ما للمخلوق لله، الله جل علا يقول: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:١٧] ، وهذه الآية نزلت في وقعة بدر كما هو معروف، وذلك أن الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لما قابله المشركون أن يأخذ حصى الوادي ويرميهم بيده، فذهبت هذه الرمية ودخلت في مناخرهم وعيونهم، وهم بعيدون عنه، فالذي نفي عنه غير الذي أثبت له، فالمنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو إيصال المرمي إلى عيونهم ومناخرهم، فإن هذا ليس باستطاعة الإنسان، وإنما هذا بأمر الله وقدره وكونه ومشيئته.
أما أخذ الحصباء وحركة اليد به ورميه فهذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية فيها إثباتٌ شيء للرسول صلى الله عليه وسلم ونفي شيء، وليس أن الآية جعلت كل الذي حصل لله، فإن الله قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:١٧] ، فقوله: (إذ رميت) إثباتٌ له أنه رمى، والشيء الذي أثبت له هو بفعله وحركة يده، وأما الذي نفي عنه فهو إيصال ذلك التراب الذي لا يصل في العادة إلى مناخرهم وأعينهم وهم بعيدون عنه.
فإذاً: لا يكون في الآية دليلٌ لهم، والمشكلة أن فعل الإنسان لا يختلف، فما الفرق في كونه صلى أو كونه أكل وشرب؟ كله يقع باختياره ومقدرته، فإذا نفيت عنه الصلاة مثلاً فقل: ما صلى وإنما صلى الله، تعالى الله وتقدس! كذلك الأكل تقول: العبد ما أكل ولا شرب، ومن الآكل؟ هل يستطيع أن يقول: إن الآكل والشارب هو الله؟ تعالى الله وتقدس! وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الخبيث.
أما المذهب الذي قابله فهو مذهب القدرية، وسموا قدرية كما قلنا لأنهم نفوا القدر، والقدر كما سيأتي عبارة عن علم الله جل وعلا، وكتابته، ومشيئته وخلقه، لا يخرج عن ذلك شيء، فأوائلهم أنكروا العلم ولكن لما علموا أنه كفر رجعوا، وأقروا بأن الله علام الغيوب وعالمٌ بكل شيء، وأنكروا الكتابة وعموم المشيئة والخلق، فقالوا: إن الإنسان هو الذي يؤمن، وهو الذي يكفر حقيقةً، وهذا ليس عليه اعتراض، ولكن مقصودهم أن الله لا يخلق الإيمان في قلب الإنسان يعني: أنه لا يحبب إليه الإيمان ويزينه في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله راشداً، بل العبد هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يكفر باختياره وقدرته، ليس لله عليه في ذلك منة، ولا دخل له فيه، وهكذا سائر الأعمال، ما السبب؟ السبب أنهم يقولون: لو قلنا: إن الكفر والإيمان يزينه الله جل وعلا وييسره ويهيئ أسبابه، لكان هذا فعلٌ من أفعال الله، فيلزم على ذلك أن يكون الله ظالماً، يعني: يعاقب على الكفر الذي يخلقه في القلب، ويثيب على الإيمان الذي يخلقه في القلب؛ فيكون ظالماً، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وتناقضوا في هذا، فجاءت هذه الشبهة، فنفوا من أجلها القدر، وأثبتوا أن العباد خالقين مع الله.
والجواب عن هذا أن يقال لهم: إن الله جل وعلا خلق القدرة على الفعل في الإنسان، ولم يكلفه إلا بالشيء الذي يقدر عليه، وخلق له العقل والاختيار والنظر، وأمره بالخير، ونهاه عن الشر، وقال: هذا الخير افعله باختيارك ومقدرتك، فإذا فعلته فلك الجزاء والمثبوبة، وهذا الشر فاتركه باختيارك ومقدرتك، ولم يأمر بشيء لا يقدر عليه ولا يستطيعه، فإذا فعل الخير والإيمان والطاعات، فإنه يفعله باختياره، ويكون فعلاً له حقيقةً، فهو الذي صلى، وهو الذي صام حقيقةً، ولكن هذا لا يقع إلا بعد مشيئة الله جل وعلا؛ لأن الله هو الذي خلق له الأدوات، وخلق له ما يفعل به، فصار في هذا جمع بين ما أنكره هؤلاء وما نفاه أولئك، وهذا معنى كون أهل السنة وسطاً في هذا الباب، وهذا بابٌ لا يزال الناس فيه مرتبكون، وكثيرٌ منهم وقع في شيء من الجبر أو شيءٍ من نفي القدر، وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه إن شاء الله.