قوله:(ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها) .
بهذا يتبين لنا أن الناس في القدر ثلاثة أقسام: قسمان متقابلان تمام المقابلة، فطائفة تقول بإثبات القدر عموماً، وأن الإنسان لا قدرة له، بل إن كل شيء يقع فهو فعل الله، كما قال البخاري في الرد عليهم، قالوا: الأفعال كلها لله، يعني: ليس للإنسان فعل، وقسم آخر قابلوهم فقالوا: العباد العقلاء هم الذين يخلقون أفعالهم وليس لله فيها دخل ولا يشاؤها، بل هم الذين يشاءونها، وهؤلاء مقابلون لأولئك تماماً، وبالضرورة عند العاقل على أقل تقدير لابد أن يحكم بأن أحد القولين باطل، والحق أن كلا القولين باطل.
أما الطائفة الأولى فاحتجوا بمثل قول الله جل وعلا:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال:١٧] واحتجوا بعموم قدرة الله ومشيئته، وأنه هو القادر على كل شيء، وأنه هو الخالق لكل شيء، وهذا الاحتجاج صحيح، ولكن لا يلزم منه سلب العباد قدرتهم وأفعالهم، فأما قوله جل وعلا في:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}[الأنفال:١٧] يعني: أن الأسباب التي حصل بها قتلهم وإن كانت في أيديكم، فالله جل وعلا هو الذي هيأها وهو الذي يسر لكم الطريق إليها، وأما قوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}[الأنفال:١٧] فالمقصود به: رميه صلى الله عليه وسلم الكفار بالحصباء، فإنه أخذ كفاً من التراب ثم رماه نحو الكفار يوم بدر، فذهب هذا الكف من التراب ودخل في أعينهم ومناخرهم، فالمنفي غير المثبت، فقوله:(وَمَا رَمَيْتَ) يعني: ليس بقدرتك واستطاعتك أن توصل هذه الرمية إلى أعينهم ومناخرهم، وقوله:(إِذْ رَمَيْتَ) إثبات لرميه، وهو أخذه الحصباء ورميه بها، وبهذا يتبين أن المنفي غير المثبت، وأن المثبت للرسول صلى الله عليه وسلم شيء والمنفي عنه شيء آخر، وأن هذا ليس دليلاً لهم على نفي وقوع الأفعال من العباد اختياراً، واحتجوا كذلك على هذا المذهب بالحديث الذي في الصحيح، وهو: حديث احتجاج موسى على آدم واحتجاج آدم عليه بالقدر، وفيه:(أن آدم عليه السلام قال لموسى لما قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ قال له: كم وجدت بين خروجي من الجنة وبين خلقي في التوراة التي كتبها الله لك بيده؟ قال: وجدت أربعين سنة بين قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه:١٢١] وبين خروجك، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة فحاج آدم موسى) يعني: غلبه بالحجة، فقالوا: إذاً: القدر يكون حجة، وهذا في الواقع ضلال وتأويل للحديث على غير وجهه، ومعلوم أن موسى عليه السلام لا يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، فهو لم يلمه على الذنب وإنما لامه على المصيبة، والمصيبة ترتبت على الذنب، يعني قال: لماذا أخرجتنا؟ والخروج مصيبة، فهو ما قال: لماذا أذنبت؟ لأنه تاب من الذنب، فلا يلومه على الذنب، وإنما لامه على الخروج والخروج مصيبة، فاحتج آدم عليه بالقدر؛ لأن المصيبة مكتوبة وقد وقعت ولا يمكن تداركها، والشيء الذي لا يمكن تداركه يمكن أن يحتج الإنسان عليه بالقدر كما في الحديث الذي ذكرنا:(إذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل) يعني: هكذا وقع القدر؛ لأنه ليس بالإمكان استدراكه.