[حوض النبي صلى الله عليه وسلم]
الحوض في اللغة: مجتمع الماء الذي يجتمع فيه.
وحوضه صلى الله عليه وسلم تواترت فيه الأحاديث، وقد ذكر السيوطي في كتابه (البدور الزاهرة) أن أحاديث الحوض رواها خمسة وخمسون صحابياً، ثم سرد رواياتهم في الكتاب المذكور، ومنهم الخلفاء الراشدون، وبعض الصحابة له عدة روايات مثل أنس ومثل أبي هريرة وغيرهما.
ومع أن الأحاديث في الحوض متواترة فقد أنكره الخوارج وإخوانهم من المعتزلة وأهل البدع بلا دليل ولا معنىً عقلي يقتضي ذلك، وإنما هو تعنت وضلال، وخليق بمن أنكره أن يحرم وروده والشرب منه.
والصحيح أن كل نبي له حوض في الموقف.
وأما تعيينه وأين يكون، وهل قبل الصراط أو بعد الصراط فمحل خلاف بين العلماء، وإن كان بعضهم يرجح أنه يكون قبل الصراط، كما قاله القرطبي، وقال: إن هذا يقتضيه المعنى.
ولكن المعنى والعقل لا دخل له في هذه الأمور، وقد جاء في حديث لقيط بن صبرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد الصراط وإن كان هذا الحديث يضعفه بعضهم، ولكن جاءت له شواهد، وقد صححه طوائف من العلماء، وفيه أنه قال: (ثم تعبرون الصراط، وتأتون على حوض نبيكم صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة كانت) ، وذلك أن الصراط منصوب فوق جهنم، ولابد أن ينال العابر من حرها ومن سمومها ولهبها ما يناله، فيقع له الظمأ الشديد، فيكون الحوض بعد ذلك، وأما الجمع فكما يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأحاديث فيه متفقة؛ فإنه يمكن أن يكون قبل الصراط وبعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه مسيرة شهر) أي: عرضه مسيرة شهر وطوله مسيرة شهر.
فيكون جزء منه قبل الصراط وبقيته بعد الصراط، ويكون الورود عليه أولاً وآخراً.
وعلى كل حال مثل هذا لا يضر، وإنما الذي ينبغي هو الإيمان به وإثباته كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنبياء كلهم لهم أحواض يردها المؤمن بهم، فكل من آمن بنبي فإنه يرد حوضه.
وأما ما جاء عن صالح عليه السلام أنه ليس له حوض، وأن حوضه هو ضرع ناقته التي أخرجها الله جل وعلا لقومه فهذا غير صحيح، ولم يثبت ولم يصح.
ثم إنه جاء في وصف الحوض بأن ماءه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأنه يصب فيه ميزابان من الجنة واحد من ذهب والآخر من وَرِق -من فضة- يقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:١-٣] .
وثبت في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغفا إغفاءة ثم استيقظ وهو يضحك، فإما سألوه أو قال لهم: إن ربي أعطاني نهراً في الجنة، أعطاني الكوثر، وهو نهر عليه خير كثير) ، وذكر أن كيزانه مثل نجوم السماء، وأن الوارد عليه أكثر من الوارد على أحواض الأمم الأخرى؛ لأن هذه الأمة هي أكثر الأمم اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحوضه هو الحوض الأعظم والأكبر، وهذا فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعين القول به، أما ما جاء في تفسير بعض السلف أنه خير كثير فهو داخل فيه.
وفي الصحيح عن أنس أنه قال: (يا رسول الله! أسألك أن تشفع لي.
فقال: أنا فاعل إن شاء الله.
فقال: أين أجدك؟ قال: على الصراط.
فقلت: وإن لم أجدك هناك؟ قال: عند الميزان.
قلت: وإن لم أجدك؟ قال: عند الحوض، لا أعدو هذه الثلاث) .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم يقف عليه ومعه عصا يذود عنه من خالف سنته وتركها.
وجاء في صحيح مسلم: أنه يكون قائماً عليه فيرد عليه قوم من أمته قال صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم ويعرفونني، ثم يخرج رجل ويحول بيني وبينهم، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار.
فأقول: وما لهم؟ فيقول: لم يزالوا مرتدين على أدبارهم) .
وجاء أيضاً في الصحيح أنه يختلج أقوام ممن يرد على الحوض ويذهب بهم إلى النار.
وهذه النصوص تدل على أن الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الذي يعبر الصراط يدخل الجنة، فمن عبر الصراط لا يُرجع به إلى النار، ولكن جاءت أحاديث أخرى فيها أنه بعد الصراط.
أما ما قاله بعض العلماء: إنه حوضان واحد قبل الصراط، والآخر بعده فهذا -كما يقول ابن القيم -: شأن الضعفاء من العلماء الذين يعيهم الجمع بين الأحاديث فيجعلون الجمع متعدداً.
أما ما علل به الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بأن المناسب أن يكون بعد الصراط لأن الحوض بجوار الجنة ومدده من الجنة، ولو كان قبل الصراط لحالت النار بين الماء الذي يأتي من الجنة وبينه فهذه كلها تعليلات؛ وأمور الآخرة أمور فوق العقل والنظر والاجتهاد، وتعيين أنه قبل الصراط أو بعد الميزان أو قبل الميزان وما أشبه ذلك يحتاج إلى نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب إثباته في الموقف، ولهذا ذكره المؤلف بعد ذكر المحاسبة، والمحاسبة يكون بعدها الميزان وتطاير الصحف كما سبق.
ويكون الحوض في العرصات، والعرصات هي المواقف، ولهذا قال: (وفي العرصات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم) والعرصات هي المواقف التي يقفون بها للحساب والمسائلة، وهي تختلف، وقد جاء في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: على الصراط) ، وفي رواية لـ أم سلمة رضي الله عنها أنه قال: (في الظلمة قبل الصراط) أي: هناك مكان مظلم توزع فيه أنوار الناس على حسب إيمانهم، فليس لأحد نور إلا ما يعطى، وإلا فهم في ظلمة عظيمة، وتختلف أنوارهم، فمنهم من يكون نوره مثل الجبل أمامه، ولكن هذا النور لا يبصره إلا صاحبه فقط، وهو الذي يسير به ويبصره، أما الذي بجواره فلا يبصر شيئاً من هذا النور، ومنهم من يكون نوره أقل من ذلك، ومنهم من يكون نوره مثل النخلة، ومنهم من يعطى نوره على إبهام أصبع رجله أو يده ينطفي مرة ويضيء أخرى، فإذا انطفى وقف.
وإذا أضاء قدم رجله، وفي هذا يحال بين المؤمنين وبين المنافقين، كما أخبر الله جل وعلا أنهم ينادون ويقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] ، ولكن لا يستطيعون؛ إذ لا أحد يقتبس من نور أحد؛ لأن هذا جزاء العمل وكل إنسان عمله له، كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:٣٩] .
وقوله: (الحوض المورود) الورود يكون بعد الظمأ وشدة الحاجة إلى الماء، والذين يردونه هم المؤمنون المتبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المبتدعة والضالون فإنهم يذادون عن الحوض.
وقوله: (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) يعني أنه جمع بين الصفات الحسنى في المعنى والمرأى، وفي الصفات المعنوية والصفات المحسوسة المشاهدة.
وقوله: (وآنيته عدد نجوم السماء) الآنية: هي الكيزان التي يشرب بها.
وتكون عند الحوض، وكل من مد يده إليه وضُع فيها كأس، فيأخذه ويشرب، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، وهذا هو أول نعيم المؤمن يناله من الجنة.
وقوله: (طوله شهر وعرضه شهر) يعني أنه متساوي الأطراف، وهذا شيء عظيم وكبير جداً، وعلى هذا الكبر يأتي يوم وعليه زحام، يتزاحم الناس عليه ليشربوا منه، مع أنه لا يرد عليه إلا المؤمنون المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كثيرون.
وقوله: (من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) يعني أنه لا يناله عذاب بعد ذلك، فإذا شرب هذه الشربة فقد خلص من كل المخاوف التي تكون في ذلك الموقف، وصار هذا عنوان سعادته وأول نعيمه الذي ينعم به في الجنة.