قوله رحمه الله: [وقول الله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}[آل عمران:٥٥]] هذا خطاب من الله جل وعلا، وإذا جاءت ياء النداء فلا يحتمل إلا الكلام المسموع الذي يلفظ به ويسمع، ولابد أن يكون بحروف وأصوات، لا يحتمل الأمر غير هذا، فلهذا صار هذا من أعظم النصوص وأوضحها في إثبات كلام الله جل وعلا، ومن أعظم ما يرد على أهل الباطل الذين أنكروا كلام الله.
((يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) الوفاة هنا جاء تفسيرها بتفسيرين عن السلف، أحدهما: متوفيك أي: قابضك، وليس القبض هنا المقصود به الموت، بل من باب قبض الشيء إذا قبضه كاملاً وذهب به.
الثاني: متوفيك أي: منيمك ثم رفعه نائماً، وهو صلى الله عليه وسلم حي لم يمت، وقد جاءت الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سينزل ويحكم بهذا الشرع، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويبذل المال حتى لا يأخذه أحد، فتكون السجدة يومئذٍ خير من الدنيا وما فيها) ، يعني: عند الناس، وهذا من أشراط الساعة الكبرى، فإنه إذا نزل يكون قد خرج الدجال قبله؛ لأنه ينزل ليقتله، فهو الذي يقتل الدجال.
والمسيح مسيحان: مسيح في الخير والهدى، ومسيح في الضلالة والردى، فمسيح الضلالة هو الدجال الأعور الكذاب، أعظم كاذب على وجه الأرض، وفتنته أعظم الفتن، وهو من اليهود، واليهود ينتظرونه، ومن علامات خروجه اجتماعهم في فلسطين، فهم ينتظرونه لأنه على مذهبهم وعلى نحلتهم، وهم أخبث خلق الله جل وعلا، بل هم أعداء الله، وقد جاء في صحيح مسلم:(أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفاً على رءوسهم الطيالس) ، وجاء في وصفه أنه أول ما يخرج يدعي أنه مصلح، وأنه سيقضي على الفساد في الأرض، فيفتتن به خلق كثير ويتبعونه، ثم إذا تمكن بعد ذلك يدعي أنه نبي، فيفارقه كثير من أتباعه عند ذلك، ثم يتمادى به الأمر ويدعي أنه رب العالمين، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة مسيره قال:(كالغيث إذا استدبرته الريح) ، يعني: مثل السحاب الذي استدبرته الريح الشديدة التي تهب بسرعة.
وأخبر أن مكثه أربعون يوماً فقط، وأنه يطأ كل بلاد الأرض إلا مكة والمدينة، يكون عليهما ملائكة يذودونه عنهما، ومع ذلك يأتي إلى قرب المدينة ويضرب خيامه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، ويخرج إليه المنافقون والمنافقات ويتبعونه، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من سمع به منكم فلينأ عنه) يعني: ليبتعد عنه (فإن الرجل يأتيه واثقاً بنفسه، فلا يزال حتى يتبعه ويؤمن به؛ لما معه من الفتن) .
وهذه الأيام الأربعون: يوم منها كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كهذه الأيام، ولهذا السبب جاء في صحيح مسلم:(ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: الدابة، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها) ، فجعل الدجال من العلامات التي إذا جاءت لا ينفع الإيمان، ولا تنفع التوبة، والسبب في هذا هو ما جاء في هذا الحديث أن أيامه يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، فهذا إيذان باختلاف الكون، وأنه يختل وسينتهي عن قرب، فهي آيات تضطر النفس حينئذٍ إلى الإيمان بالله جل وعلا المتصرف بها، فإذا جاءت الآيات التي تضطر الإنسان إلى الإيمان، يصبح الإيمان بالغيب لا مزية له، وصار إيمان بالمشاهد، والإيمان بالمشاهد لا يفيد.