للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أدلة النفاة والرد عليهم]

احتج نفاة الرؤية بقول الله جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، وقالوا: إن (لن) في لغة العرب تدل على النفي المؤبد! وهذا كما يقول ابن القيم رحمه الله: كذب على اللغة العربية، فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، وقد جاء في القرآن ما يدل على خلاف ذلك، فإن الله جل وعلا ذكر عن اليهود أنهم لن يتمنون الموت أبداً، وزيادة على (لن) جاءت (أبداً) بعدها فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:٩٥] ، ولما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨] ، قيل لهم: إن كنتم صادقين فتمنوا الموت؛ لأن الذي هو حبيب لله جل وعلا وقريب إليه إذا مات يكون سعيداً سعادة لا تشبه سعادة الدنيا، فإذا كنتم صادقين فتمنوا الموت، فأخبر الله جل وعلا أنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يعني: بسبب ما عملوه، ثم أخبر في آية أخرى أنهم يتمنون الموت إذا كانوا في النار، فقال: {َوَنَادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] ، ليقض: يعني ليمتنا: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] ، فدل هذا على أن دعواهم أن (لن) تفيد التأبيد باطلة، ثم الآية تدل على عكس ما استدلوا به، وتدل على بطلان قولهم من وجوه: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام سأل ربه الرؤية، وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً مستحيلاً، ولا يسأل شيئاً غير ممكن، وهذا يتنزه عنه الأنبياء؛ ولهذا قال العلماء: إن رؤية الله في الدنيا ممكنة ولكنها غير واقعة لضعف خلق البشر؛ فإنهم لا يستطيعون ذلك، بل الجبل ما استطاع أن يقوم لرؤية الله بل تدكدك؛ لأن المخلوقات في هذه الحياة خلقت للفناء فلا يمكن أن تقوم لرؤية الله جل وعلا كما جاء في حديث أبي موسى الذي في صحيح مسلم: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، قال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، ومن المعلوم أن بصر الله جل وعلا لا يحجبه شيء، ولا يمكن أن يستتر عن بصر الله جل وعلا شيء، فمعنى ذلك: أنه لو كشف الحجاب لذاب كل شيء، وقوله: (سبحات وجهه) ، يعني: بهاؤه وجماله جل وعلا.

الوجه الثاني: أن الله جل وعلا علق إمكان رؤيته على إمكان استقرار الجبل في مكانه، واستقرار الجبل ممكن؛ فدل على أن الرؤية ممكنة.

وهناك أوجه أخرى كثيرة في الآية تدل على بطلان قولهم.

أما استدلالهم بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٣] ، فهو أيضاً لا يدل على ما قالوا، ونحن نقول أيضاً: إن الله جل وعلا لا تدركه الأبصار، ولكن نفي الإدراك لا يدل على نفي الرؤية، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، نحن نرى السماء ولكن لا ندركها، ونرى الشمس ولا ندركها وهي صغيرة بالنسبة للسماء فكيف برب العالمين؟! ويدل على هذا ما ذكره الله جل وعلا في قصة موسى مع فرعون فإن موسى لما أمره الله جل وعلا أن يخرج ببني إسرائيل من مصر فسرى بهم ليلاً، فلما علم فرعون أرسل في المدائن حاشرين يحشدون الجنود لاتباعهم وقتلهم، فتبعهم فرعون بجنوده فلما صار بنو إسرائيل مع موسى أمام البحر، ويرون فرعون خلفهم، فقالوا لموسى: إنا لمدركون، فنفى موسى عليه السلام ذلك وقال -كما أخبر الله عنه-: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢] فدل هذا على أن الإدراك غير الرؤية، فتصح الرؤية مع نفي الإدراك، قالوا: إنا لمدركون، قال: كلا لن ندرك، وكل فريق يرى الثاني {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦١-٦٢] فتبين بهذا أن الإدراك شيء آخر، وهو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه.

وجميع ما استدلوا به وتسمكوا به في الواقع أنه شبه وليس أدلة، ومن العجب أن ترى النفاة يتمسكون بهذه الشبه، ويتركون الأدلة الواضحة الجلية السالمة عن المعارضات، والكثيرة الوفيرة حتى في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم المروية عنه، فقد جاء فيها تقرير هذه المسألة، فجاء عنه أنه قال: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) ، فهذا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد دلت النصوص على أن أعلى نعيم يتمتع به أهل الجنة هو مشاهدة ربهم ورؤية وجهه الكريم جل وعلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>