[منهج أهل السنة في التلقي والاستدلال]
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك؛ كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
] .
هذه قاعدة ذكرها الشيخ رحمه الله في طريقة أهل السنة في قبول النصوص، يعني: نهجهم في التلقي، ومعلوم أن العمل والعقيدة لا بد أن تبنى على نصوص، فهم لا يفرقون بين الكتاب والسنة، بل كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم ما قاله الله جل وعلا، ولما كانت الأحاديث التي ذكر قليلة والأحاديث في صفات الله جل وعلا وأسمائه كثيرة قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث) يعني: هناك أحاديث كثيرة ولكن المقصود أن على المسلم أن يعرف طريقة أهل السنة ومنهجهم في التلقي والاستدلال فإذا عرفه سلك ذلك في كل حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان سنده صحيحاً أو حسناً، فإن الحسن من أقسام الصحيح كما هو معروف، ويثبت به ما يثبت بالصحيح من العقائد وغيرها.
وأما إذا كان الحديث قد قبلته الأمة واستفاض فيها فهذا بلا شك أنه يفيد العلم، كما قرر ذلك علماء أهل السنة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك وقال: الأحاديث إذا صحت أسانيدها فإنها تفيد العلم كأحاديث الصحيحين البخاري ومسلم، وبنوا على هذا أحكاماً، منها لو أن إنساناً طلق زوجته على لفظ في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم به، فإنها لا تطلق؛ لأن هذا معلوم أنه قاله صلى الله عليه وسلم، والمقصود البناء على كل ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه حق.
أما بعض الألفاظ التي قد يكون سندها صحيحاً، ولكن قد تكون غلطاً فهذه نادرة جداً، ومن المعلوم أنه يحتمل الغلط والخطأ وأنه وارد، ولكن إذا قبلته الأمة ولاسيما الذين لهم معرفة بالآثار وبالرجال وبأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الاحتمال إليه يكون ضعيفاً جداً فلا يلتفت إليه، أما الغلط الذي نقول: إنه قد يقع في أحاديث صحيحة مثلما مر معنا في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر احتجاج الجنة والنار قال: ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد، حتى يضع عليها رب العزة جل وعلا قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وأما الجنة فإنه لا يزال فيها فضل مساكن فينشئ الله لها خلقاً فيسكنه فضل الجنة) ؛ هذا الحديث جاء في الصحيحين منقلباً؛ لأنه جعل ما للجنة للنار، وما للنار للجنة، في البخاري وفي مسلم، ولكن البخاري رحمه الله بين أنه غلط بذكر الصواب بعده مباشرة، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه طريقته إذا وقع حديث من الأحاديث في متنه غلط أو في سنده، فإنه لا يتركه بل يبينه، ولكن بيانه لم يكن بالتصريح والقول؛ لأن من عادته التي جرى عليها أنه يعتني بالإشارات ويعتني بالأمور التي تتطلب فهم ونظر؛ وذلك لتدريب الطالب على الاستنتاج والاستخراج من النصوص.
وكذلك ما في صحيح مسلم حديث التربة: (خلق التربة يوم السبت) قال العلماء: هذا غلط، فيوم السبت ليس فيه خلق، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ومعلوم أنه جاء في الأحاديث الصحيحة أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة آدم فهو آخر الخلق، فيكون أولها يوم الأحد.
وهذا نادر ولا ينظر إليه، ولكن المقصود أن الأحاديث إذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح سندها فلا فرق بين كونها في صفات الله جل وعلا وأسمائه، أو في الأحكام التي فيها المعاملات من الحلال والحرام، والذين فرقوا بين الفروع والأصول هم أهل البدع، أما أهل السنة فعندهم لا فرق بين أصول وفروع، ب لكل ما ثبت به حكم من أحكام الفروع يثبت به أصل من أصول الشرع، ولهذا قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة) .
قوله: (الفرقة الناجية) سيأتي تفصيل ذلك في وصفهم، وأما قوله: (أهل السنة والجماعة) فهو وصف آخر؛ لأن الفرقة الناجية يجب أن يكونوا على سنة، وقوله: (الجماعة) يجب أن يكونوا مجتمعين، ولا يجوز أن يكون بينهم اختلاف وتفرق، فإن حصل بينهم الاختلاف والتفرق فقد تركوا صفة من الصفات التي يجب أن تكون لهم، فأهل السنة لا يتفرقون بل يجتمعون على الحق والنظر، ولا يدعو ذلك إلى التفرق ولا إلى التباغض والتنابز والتقاطع، فإن هذا ليس شأن أهل السنة، وهذا شيء معروف.
قوله: (يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) يعني: أنه لا فرق بين أن يثبت الاسم أو الصفة في الكتاب أو في حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكله حكمه واحد يجب قبوله والإيمان به.
وقوله: (من غير تحريف ولا تعطيل) سبق بيان معنى التحريف والتعطيل في أول العقيدة، وأن التحريف يدخل فيه التأويل الذي يسميه أصحابه: تأويلاً، ويجعلونه واجباً، كما هو معروف عند الأشاعرة وغيرهم، فهم يجعلونه واجباً ومتعيناً، وهو في الواقع تحريف لا يجوز سلوكه، ومن سلكه فقد وقع في الخطأ، وأما التعطيل: فهو إخلاء النص عن معناه الذي أراده المتكلم؛ لأن التعطيل مأخوذ من العطل وهو الخلو كما سبق.