[ذكر الذين أنكروا الرؤية وأدلتهم والرد عليهم]
من الذي أنكر النظر إلى الله جل وعلا؟ الذين أنكروه هم من ذكرهم عبد الجبار المعتزلي في كتابه "المغني" حيث يقول: أجمع أهل العدل كافة: الزيدية والخوارج وبعض المرجئة على عدم الرؤية، والمقصود بأهل العدل: المعتزلة؛ لأنهم يسمون أنفسهم أهل العدل والعدلية، مع أنهم أهل الجور والظلم؛ لأنهم أنكروا الرؤية.
أنكروا الرؤية مع أن الأحاديث فيها -كما يقول بعض العلماء:- متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم! ويقول الله جل وعلا: {وجوه يَوْمَئِذ نَاضِرَة * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة:٢٢-٢٣] ، ويقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنوا الْحسْنَى وَزِيَادَة} [يونس:٢٦] ، وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم؛ لأن الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الله، وهو أعلى من نعيم الجنة.
وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجوبونَ} [المطففين:١٥] ، والشافعي رحمه الله يقول: لما حجب أعداءه دل على أنه ينعم على أوليائه برؤيته، وأنهم يرونه.
وأما الأحاديث في هذا الباب فهي كثيرة جداً وصريحة وواضحة، ومن المعلوم عند أهل السنة أن ما دلت عليه الأحاديث هو كالذي دلت عليه الآيات، ولا فرق، فيجب قبوله والإيمان به، ولا عذر لمن أنكر ذلك.
أما الشبه الواهية التي يتعللون بها فهي أصل دينهم الذي بنوا عليه مذهبهم؛ فإنهم يقولون: إن العقل: هو الذي يرجع إليه، ويسمون أدلة العقل: براهين.
أما أدلة الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالة الآيات فيجعلونها ظنية، وهذا من أبطل الباطل، ولا ينطلي على أهل الحق مثل هذا الكلام، ولا يؤثر في عقيدتهم، ولكن قد يوردون بعض الشبه التي تؤثر على بعض من لم يعرف الحقائق.
وأهل الباطل مذهبهم: أنهم لا يستدلون بدلالة الآيات، وبدلائل الأحاديث إلا إذا كانت لهم، فكيف يكونون أهل العدل وهكذا يصنعون؟! واستدلوا على نفي الرؤية بقول الله جل وعلا: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] ، مع أنهم يقولون: دلالة النصوص ظنية، فلا يثبت بها ما هو من العقائد! واستدلوا أيضاً باللغة وكذبوا عليها؛ قالوا: إن اللغة العربية تدل على تأبيد النفي، وهذا ليس صحيحاً، ولهذا نص ابن مالك في الألفية على نفي ذلك، وإبطاله؛ لأنه معروف مشهور.
ولا يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن رده فمعنى ذلك: أنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: اعتقاد أنه رسول، وطاعته في أمره، واجتناب نهيه، وإلا لم يكن قائلها صادقاً في كونه شهد أن محمداً رسول الله وهو يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يؤْمِنونَ حَتَّى يحَكِّموكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهمْ ثمَّ لا يَجِدوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيسَلِّموا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] ، فالأمر ليس سهلاً، ولا يجوز أن يتساهل في مثل هذه القضية؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار ينطبق عليهم ما ينطبق على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك.
وأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم أنهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، وكيف عرفوا الله بحدوث الأجسام؟! يقولون: إن هذه المخلوقات إذا نظرنا إليها فإنها فقيرة، تعتريها العوارض، مثل الجهل والعلم، والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير، وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة، فنقول: نعم، هذا صحيح، فيقولون: إذاً: الأصل هو هذا، والذي صار فقيراً محدثاً وجد بعد أن لم يكن موجوداً، فلابد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة نهائياً، وبطلت الأديان، هكذا يزعمون، وهذا قولهم، فعلى هذا يقولون: لابد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لابد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، وأن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر، هذه هي أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل الكرامية فقالوا: نعم، نقول بذلك، ونحن أسعد بالنصوص منكم؛ لأن هذا دلت عليه النصوص، فنحن نقول به، ولا ضير علينا أن نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وقول هؤلاء، وقول هؤلاء باطل بلا شك، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، فيعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هذه الفرق يبطل قول الفريق الثاني.
والرد الصحيح الذي يجب أن يرد به على هؤلاء من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، وأصل المسألة بدعية، والرسل لم يأتوا يأمرون الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجساد؛ حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل تأتي بالإيمان الذي يكون بالوحي، والخلق ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فإن أصل مقالتهم فاسدة ومردودة.
الوجه الثاني: أننا كُلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بلا رجوع إلى عقولنا في ذلك.
الوجه الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهوَ السَّمِيع البَصِير} [الشورى:١١] ، فهو جل وعلا له سمع وله بصر وله وجه وله يدين حقيقة كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى:١١] .
الوجه الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكل ما كان له ذات ووجود يصح في العقل نظره، مع تضافر الشرع على ذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا هو الذي جاء به القرآن، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هذه مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل، وأما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وقد أبطل العلماء أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة من وجوه كثيرة، وهذه الطائفة ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع الشبه، وتترك النصوص الواضحة الجلية، والأمر كما قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قلوبِهِمْ زَيْغ فَيَتَّبِعونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه} [آل عمران:٧] ، مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع، بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا كما سبق بأدلة كثيرة، ومنها مجملة؛ مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فإنها تدل على الرؤية، كقوله جل وعلا: {يَا أَيّهَا الإِنسَان إِنَّكَ كَادِح إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَملاقِيهِ} [الانشقاق:٦] ، وقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَظنّونَ أَنَّهمْ ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهمْ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} [البقرة:٤٦] ، وما أشبهها، وهي كثيرة جداً، فاللقاء في اللغة هو: المعاينة بعد المسير والكدح، فهو يتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة، وأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجهد في دعائه ربه أن يبيحه النظر إلى وجهه الكريم.