[إثبات رؤية المؤمنين لربهم]
يقول المصنف رحمه الله: [وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله، الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء.
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه.
فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] ، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي.
وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها المسلمون] .
قوله: (وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم) .
أي: لأن هذا أمر جاء في الوحي الذي جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به لازم لمن آمن بالله وباليوم الآخر، وقد تواترت الأحاديث في ذلك، والآيات ناطقة بهذا، يقول الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢-٢٣] ، ويقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] .
ويقول جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] ، في هذه الآية دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن ربهم وأنهم يرونه، وهو مفهوم جلي واضح.
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:٢٢] أي: بهية جميلة حسنة من النضرة والتنعم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣] أي: تنظر إلى ربها بأعينها.
فأضاف النظر إلى الوجه الذي فيه البصر بعدما ذكر أنها منعمة، فدل دلالة صريحة واضحة على أن المقصود النظر بالبصر، وليس يقصد غير هذا، فكل قول يكون على خلاف ذلك فهو تحريف للآية.
وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦] صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا) ، وهذا تفسير نبوي لا يجوز العدول عنه، فهو واضح وجلي، ولا عذر لمن خالفه، ولهذا السبب قال الإمامان أحمد وابن خزيمة وغيرهما من العلماء: إن من أنكر رؤية المؤمنين لربهم فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتد؛ لأنه مكذب لصريح القرآن.
وقوله: (عياناً بأبصارهم) هذا التصريح لرد ما قال أهل البدع: إن النظر هو زيادة علم.
أو: إنه نظر إلى النعم أو إلى شيء آخر مما يجعله الله لهم، سواء أكان نعيماً أم غير نعيم.
وهذا من التحريف الظاهر البطلان، ومعلوم أن الذي أنكر الرؤية هم الخوارج والمعتزلة والرافضة وأشباههم من أهل البدع.
أما الأشاعرة فهم أثبتوا رؤية غير الرؤية التي أثبتها المؤمنون، والواقع أن إثباتهم يرجع إلى النفي وإلى الإنكار، وذلك لأنهم أنكروا علو الله وفوقيته، فقالوا: يرى لا في جهة, فضحك عليهم العقلاء في ذلك؛ لأن هذه رؤية غير معقولة وغير واقعة، فإذا كانت الرؤية بالبصر فلا بد أن يكون المرئي مقابلاً، ومعلوم بصريح العقل فإنه إذا كان المرئي رب العالمين، أنه يرى من فوق؛ لأنه لا يكون عن يمين ولا عن شمال ولا من تحت ولا من خلف ولا من أمام، بل من فوق، وقد جاءت النصوص صريحة بهذا، فكل من خالف ذلك فهو مبطل وهو من أهل البدع، لهذا قال المصنف: (عياناً بأبصارهم) لئلا يقال: إنها رؤية قلبية.