لا يزال المصنف رحمه الله في مسألة الكلام، ومسألة الكلام -كلام الله جل وعلا- اختلف الناس فيها كثيراً، ولكن أدلة الحق واضحة وجلية، ومنها هذه الآيات التي ذكرها المؤلف، وبدأها بقوله:{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}[النساء:٨٧]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}[النساء:١٢٢] ، وكذلك التصريح بالقول:{وإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}[آل عمران:٥٥] ، وكذلك التصريح بأن له كلمات، وأنه يتكلم:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}[الأنعام:١١٥] ، وكذلك التأكيد بمصدر الفعل على أنه يكلم من يشاء:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:١٦٤] ، وهذا إذا جاء بهذه الصيغة فإنه لا يحتمل إلا الحقيقة، كما نص على ذلك أهل النحو وأهل اللغة، وكذلك قوله:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}[البقرة:٢٥٣] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[الأعراف:١٤٣] ، هذا لفظ الكلام والقول، ثم يذكر النداء، والنداء لا يكون إلا بالقول الذي يستند على الحرف والصوت؛ لأن النداء لمن بعد بخلاف النجوى، فإن النجوى للقريب، والنداء للبعيد، وإن كان الرب جل وعلا كل شيء لديه قريب، ولكنه ينادي من يشاء من عباده كما سيأتي، وهذا جاء في أحد عشر موضعاً من كتاب الله جل وعلا، وهو من أصرح الأدلة على أن الله جل وعلا يتكلم كلاماً بحرف وصوت كلاماً حقيقياً، وكذلك قوله:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[التوبة:٦] ، والإضافة تمنع أن يكون الكلام لغيره جل وعلا وقد أضافه إليه؛ والمعنى إذا أضيف يتعين أن يكون صفة، بخلاف العين القائمة بنفسها فإنها تكون من إضافة المخلوق إلى خالقه كقوله: رسول الله نبي الله عبد الله بيت الله ناقة الله، فهذه وإن كان يقصد بها التشريف والتكريم والاختصاص ولكن هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، بخلاف كلام الله سمع الله بصر الله وما أشبه ذلك، فإن هذا يتعين أن يكون من إضافة الصفة إلى الموصوف.
قال رحمه الله: [وقوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:٧٥] ، وقوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}[الفتح:١٥]] وهذا في قصة الحديبية وبيعة الرضوان لما بايع الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت أو على ألا يفروا حسب ما جاء في الحديث، وإذا كانوا لا يفرون فيلزم من ذلك أن الإنسان يقاتل حتى ينتصر أو يقتل ولابد، فأثابهم الله جل وعلا بأن عجل لهم مغانم خيبر التي وعدهم بها، وأمر ألا يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من حضر تلك الغزوة، فأراد بعض المنافقين -لما علموا أن الغنائم مضمونة- أن يتبعوهم وليس عندهم رغبة في الأجر، فأمر الله جل وعلا نبيه أن يقول:((لَنْ تَتَّبِعُونَا)) [الفتح:١٥] وأخبر أن اتباعهم هذا خلف لوعد الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}[الفتح:١٥] ، ووعد الله الذي وعدهم به هو بكلامه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا على قول.
والقول الآخر: أن التبديل لا يكون لخلق الله، كما قال الله جل وعلا:{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الروم:٣٠] ، وإنما التبديل يكون للكلام كما أخبر الله جل وعلا أن اليهود يبدلون كلام الله بغيره، فالكلام يمكن تبديله ولو كان الكلام مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- ما أمكن تبديله، هذا وجه الاستدلال من الآية:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ}[الفتح:١٥] ، فكونهم أرادوا ذلك فهذا يدل على إمكانه، وقد أخبر جل وعلا أن من اليهود من بدل كلام الله، أما لو كان مخلوقاً -كما يقول أهل الباطل- فإنه لا يمكن؛ لأن الله جل وعلا يقول:{لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه}[الروم:٣٠] ، فخلق الله لا يبدل، إذا خلق الله شيئاً فلا يمكن أن يبدل بغيره.