[بيان أن ما استدل به منكرو الرؤية يدل على خلاف قولهم]
واستدلال المبطلين من الخوارج والمعتزلة بقوله تعالى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}[الأنعام:١٠٣] ، فزعموا أن الإدراك هو الرؤية، فهو استدلال باطل كما تقدم؛ لأن الإدراك غير الرؤية؛ إذ تجتمع الرؤية ونفي الإدراك، ولهذا أخبر الله جل وعلا في قصة موسى مع قومه أنهم لما رأوا فرعونه وجنده قالوا له:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[الشعراء:٦١] ، فنفى موسى ذلك مع وجود الرؤية:{قَال كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:٦٢] ، وذلك لأن الله جل وعلا قال له:{لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}[طه:٧٧] فنفى عنه الدرك، والدرك هو أن يهلك بالعدو أو بغيره.
فالمقصود أن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، والله سبحانه لا يدرك، فتجتمع الرؤية ونفي الإدراك في حقه، وذلك لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله يأخذ سماواته وأرضه بيده اليمنى فتكون كالخردلة في يد أحدكم وله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وخلقه حقيرون بالنسبة إليه، فلا يحيطون به ولا يدركونه، ولكن أولياءه من المؤمنين يرونه رؤية مواجهة جل وعلا.
وأما استدلالهم بقوله جل وعلا في قصة موسى أيضاً:{لَنْ تَرَانِي}[الأعراف:١٤٣] فزعموا أن (لن) للنفي المؤبد فهذا، تحريف وكذب على اللغة العربية؛ فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، ومع ذلك فالآية تدل على عكس ما استدلوا به من وجوه: الوجه الأول: أنه لا يمكن لكليم الله موسى عليه السلام أن يسأل شيئاً مستحيلاً في العقل، فقد نزه الله أنبياءه عن أن يقعوا في مثل هذا الجهل.
الوجه الثاني: أن الرؤية علقت على شيء ممكن وهو استقرار الجبل فقال: {انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}[الأعراف:١٤٣] ، وإمكانية استقرار الجبل معقولة، ولكنه لم يقم لنور الله جل وعلا فتدكدك، فدل على أن الرؤية ممكنة.
الوجه الثالث: أن الله جل وعلا لم يقل له: إني لا أرى.
ولكن قال:{لَنْ تَرَانِي}[الأعراف:١٤٣] ، وعلق ذلك بشيء ممكن حصوله فدل على أن المانع هو أن التركيب الخلقي في الدنيا ضعيف، وأنه لا يستطيع الرؤية على هذا التركيب الذي ركب به على أنه يموت، فإذا كان يوم القيامة يركب الإنسان تركيباً تاماً فيستطيع رؤية الله جل وعلا، وهناك أوجه أخرى ترد كلام هؤلاء المبطلين.
وقوله:(ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى) ، يعني أن كيفية الرؤية غير معروفة، وإنما نؤمن بالرؤية كما أخبرنا بذلك ولا نبحث عن الكيفية، وهكذا كل صفات الله جل وعلا لا يبحث عن كيفيتها، أي: عن الحالة التي يكون عليها الرب جل وعلا في اتصافه، فهذه تستدعي المشاهدة والمشاهدة ممتنعة في الدنيا، وكذلك تستدعي أن يكون له مثيلٌ فيقاس عليه، وهو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه ولا في أفعاله، فتعين أن يكون كما يشاء الله جل وعلا، وأن تنقل الكيفية إلى علم الله تعالى.