للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[محاسبة الله عز وجل للخلق يوم القيامة وكلامه لعباده المؤمنين.]

المحاسبة تختلف باختلاف الأعمال واختلاف العباد، فالمؤمن حسابه أن تعرض عليه أعماله عرضاً، ويقال له: عملت كذا وكذا فقط، أما الكافر فحسابه: تعداد السيئات وعرضها عليه، ولكنه عرض وجزاء.

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب) ، والمناقشة معناها: الاستقصاء في الحساب، بأن يحاسب على أعماله كلها، فالذي يُستقصى في حسابه ويُناقش فيها يُعذب ولابد؛ لأنه ليس من الخلق أحد يستطيع القيام بحقوق الله كاملة، ولكن لكرم الله وجوده جل وعلا فإنه يعفو، فعند أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذب) ، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أليس الله جل وعلا يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:٧-٨] ؟ قال: ذلك العرض من نوقش الحساب عُذب) أي أن المؤمن تعرض عليه أعماله عرضاً فقط، حتى يعرف فضل الله عليه وإحسانه إليه وكرمه وجوده عليه.

وقوله: (يخلو بعبده المؤمن) أي أنه يدنيه ويقربه إليه فيضع عليه ستره، أي: يستره أن ينظر إليه الناس فيقرره بذنوبه فيقر بها ويعترف، ويظن أنه هلك، وأنه لا نجاة له، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا له: (أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) ، ثم يعطى كتابه بيمينه.

فهذا اللفظ هو من لفظ حديث ابن عمر، كما جاء في الصحيحين أنه قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعته يقول: (يدني الله جل وعلا عبده المؤمن، فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فإذا اعترف بها وظن أنه قد هلك قال له جل وعلا: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم ثم يعطى كتابه بيمينه) ، ومعنى كونه يضع عليه كنفه أي: يستره عن نظر الخلائق.

والكنف هنا هو الستر، وهذا من رحمة الله جل وعلا؛ لئلا يرى الناس ما يحدث له من تغير الوجه؛ فإنه إذا عرضت عليه أعماله يتغير وجهه ويسود ويشتد كربه، فمن رحمة الله أنه يستره، وهذا للمؤمن.

أما الفاجر والمنافق والكافر فيصاح به على رءوس الأشهاد فيقال: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:١٨] ، ويقال أيضاً: إن فلان ابن فلان خسر خسارةً لا ربح بعدها أبداً.

أو: شقي شقاوةً لا يسعد بعدها أبداً.

ثم إنه جاء في الحديث: (أن العرض يكون ثلاث عرضات: عرضتان جدال ومعاذير، والعرضة الثالثة تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله، ولكن الترمذي قال: إنه حديث فيه نظر.

ومعروف تساهل الترمذي رحمه الله، إلا أن الإمام أحمد رواه بسندٍ حسن، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، وكذلك في كتاب شعب الإيمان وقال: إنه حديث حسن.

وبعض العلماء صححه.

فقوله هنا: (جدال ومعاذير) يدل على أن هناك كلاماً بين الرب جل وعلا وبين عباده، وأنهم يتكلمون ويعتذرون، ولكن أكثرهم لا يؤذن لهم فيعتذرون، كما قال جل وعلا: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:٣٨-٤٠] ، وقال: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات:٣٥-٣٦] ، فقوله: ((هذا يوم لا ينطقون)) ليس هذا للخلق كلهم، وإنما لبعضهم، ((ولا يؤذن لهم فيعتذرون)) هؤلاء هم الذين جاءت النصوص في أنهم لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، هؤلاء هم الذين لا يؤذن لهم فيعتذرون، وكذلك لا يخلى بينهم وبين النطق بالكلام، وإنما الإذن والاعتذار والمعاذير تكون للمؤمنين الذين وقعوا في الكبائر ووقعوا في الذنوب، فمنهم من يُعذر ومنهم من لا يُعذر حتى يُدخل النار فيطهر على حسب أعماله.

وقوله: (ويحاسب الله الخلائق) جاء في وصف الحساب أن الله جل وعلا سريع الحساب، وجاء أنه جل وعلا يحاسب كل فرد على حدة، ففي الصحيح من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) .

فهل الخطاب هنا في قوله: (كل واحد منكم سيكلمه ربه) للمؤمنين خاصة، أم للأمة؟ من المعلوم أن النصوص لا تتضارب ولا يعارض بعضها بعضاً، فهنا الكلام للمؤمنين؛ لأنهم هم الذين يُكلَّمون، وأكثر الخلق لا يكلَّمون ولا يؤذن لهم في الاعتذار؛ لأن الكفار ليس عندهم إيمان، وليس لهم حسنات فيحاسبون عليها، وليس لهم حسنات فتوضع في الميزان، ولهذا جاء نفي ذلك عنهم، كما قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٥] ، يقول جل وعلا في الذين كفروا: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:١٨] ، وفي الآية الأخرى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:٣٩] ، وقوله: ((وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)) أي أنه يُجزى يوم القيامة، فهو يظن أن له أعمالاً وأنها تنفعه، فإذا بعث يوم القيامة تبين أنها ليست بشيء، ثم يلقى جزاءه، وليس هناك محاسبة، إلا أنها تعرض عليه وتعدد له سيئاته حتى يعترف ويقر بأن الحكم عليه عدلٌ من الله جل وعلا، فيحمد الله على ذلك، ويعلم أنه لا يصلح له إلا هذا الحكم، ولا يناسب له إلا هذا الجزاء.

ولهذا لما ذكر الله جل وعلا القضاء بين الخلائق ذكر بعد الفراغ أنه يحمد جل وعلا بعد انتهاء الحساب، كما قال جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:٦٨-٦٩] إلى أن قال جل وعلا: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:٧٥] .

يقول العلماء في قوله تعالى ((وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ)) : يدل حذف الفاعل على أن هذا عامٌ مطلق، وأن جميع من قضي بينهم يقولون: ((الحمد لله)) على قضائه.

لأنه قضى بالعدل الذي لا يستحق المقضي له إلا ذلك، ولا يليق به إلا ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>