[الرد على الأشاعرة القائلين: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس]
أهل المذهب الذي يقول: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، استدلوا باستدلال باطل، والاستدلال الذي اشتركوا فيه مع الجهمية والمعتزلة هو: أن إثبات الكلام يلزم منه أن يكون الرب جل وعلا محلاً للحوادث، نقول: الحوادث وحلول الحوادث من الكلام المجمل الذي قد يراد به حقاً، ويراد به باطلاً، فلا يجوز أن نقبله ونسلم به ولا أن نرده مطلقاً، بل إذا قالوا: إنه يدل على أن الله يكون محلاً للحوادث، قلنا: ماذا تقصدون بالحوادث؟ هل تقصدون بالحوادث أن شيئاً من المخلوقات يحل في ذات الله جل وعلا؟ فهذا لا يجوز أن يقال، ومن قال ذلك فهو كافر، أما إذا قصدتم بالحوادث: قوله وأمره ونهيه، وأنه يفعل ما يشاء، فهذا حق ولا يضير الحق أن تسموه حوادث، فنحن نثبت ذلك ولكن ننفي هذا الاسم؛ لأنه يوهم باطلاً ونقول: إن الله يفعل ويقول ويخلق ويأمر، وذلك يتعلق بمشيئته، وليس ربنا جل وعلا محلاً للحوادث، أما تسميتكم للصفة حوادث فهي تسمية باطلة.
هذا الجواب المجمل.
وأما قولهم: إنه يلزم منه التعاقب في الزمن والحروف، والتعاقب هذا لابد أن يكون في زمن، نقول: الأمر كذلك فإن الله يتكلم، ويقول، وقوله أنزله علينا، فنقول: إن الحروف متعاقبة، وهذا من الكمال وليس من النقص، وقد عاب الله جل وعلا على المشركين أنهم يعبدون ما لا يسمع لهم قولاً، ولا يكلمهم، ولا يرد عليهم جوابه؛ لأن المتعين أن يكون المعبود سميعاً بصيراً قادراً على نفع عابده وضره إذا لم يعبده، وهذه الأصنام لا تستطيع شيئاً من ذلك، ثم إنه بإجماع العقلاء: أن الذي يتكلم أكمل مِن مَنْ لا يتكلم، والكمال الذي في الإنسان ليس من نفسه ولا من والده أو والدته وإنما هو من الله ولا يمكن أن يكون واهب الكمال عادماً له، بل هو أولى بالكمال كما قال جل وعلا لما ذكر أنهم ينزهون أنفسهم عن البنت وأنهم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}[النحل:٥٨] وهم يضيفون البنت لله، ولله المثل الأعلى والمقصود: أنه يجب أن يكون لله الكمال المطلق من كل شيء، فكيف تنزهون أنفسكم عن شيء وتضيفونه إلى الله تعالى؟! تعالى الله وتقدس، وأما قولهم: إن الكلام يتطلب أن يكون من لسان وكذا وكذا إلى آخره فنقول: هذا كلام باطل، وهذا في الواقع منشؤه التشبيه الذي هو مستكن في نفوسهم ولكنهم لا ينطقون به، فحملهم التشبيه المستكن في نفوسهم على نفي الكلام؛ ولهذا ذكروا الشيء الذي يكون منهم، فاللسان والشفتان واللهوات والحبال الصوتية وما أشبه ذلك؛ صفة المخلوق، والله جل وعلا ليس كمثله شيء، ولا يجوز أن نصف الله جل وعلا بصفات المخلوق فمن قال: إن كلام الله يلزم منه ذلك فهو مبطل؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته، فاللوازم التي تلزم المخلوق غير لازمة لله جل وعلا، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن أشياء كثيرة تتكلم، ونحن لا نعرف لها لساناً ولا لهات ولا شيء، فالحجارة تهبط من خشية الله، والجبل يتصدع، وكل شيء يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحهم، والجذع حن أمام الناس وشهدوا بذلك، وسمعوا له صوتاً، فمن أين خرج الصوت؟! هل خرج من فم فيه أسنان وفيه لسان وشفتان؟! كلا ليس له شيء من ذلك، وكذلك الحجر الذي كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له لسان ولا شفتان، ويقول الله جل وعلا:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:٢٠-٢٣] .
هذا كلام الله يخبرنا أن الجلود والأسماع والأبصار والأعضاء تتكلم، فهل الجلد له فم ولسان وشفتان؟! فإذا أمكن أن يتكلم المخلوق وليس له فم ولا لسان إلخ، فكيف يمتنع الكلام على الخالق البصير العظيم إلا بهذه اللوازم الباطلة؟! وبهذا يتبين بطلان هذا القول.
أما قولهم: إن الكلام معنى قائم بالنفس.
فنقول: هذا المعنى الواحد هل سمعه موسى كله؟ فيكون قد سمع كل كلام الله! لأنهم قالوا: كلام الله لا يتجزأ ولا يتبعض، وإنما هو معنى واحد! فيلزمهم أن موسى سمع جميع كلام الله هذا شيء، الشيء الثاني: أن الله جل وعلا يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:٨٨] ، أرأيتم أن الله جل وعلا يتحدى الناس بالشيء الذي في نفسه ولا يعرفه الخلق! هل يمكن هذا؟! كل يعلم أن هذا من أمحل المحال، وإنما تحداهم بالشيء المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (لا يأتون بمثله) أي: بمثل الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم.