يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ، وقوله صلى الله عليه وسلم:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض:(ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره، وقوله:(ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!) حديث صحيح، وقوله:(والعرش فوق الماء.
والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره] .
ذكر المؤلف فيما مضى الأحاديث التي فيها إثبات صفات الفعل لله جل وعلا مثل: النزول، والفرح، والعجب، ثم أتبعها أيضاً بصفة فعل مقترنة بصفة ذات، وهي وضعه قدمه في جهنم جل وعلا، وفي رواية:(رجله) ، وسبق أن المقصود هنا الوضع الذي هو فعله، والرجل والقدم من صفات الذات، وكذلك أتبع هذا بصفة تكون مشتركة بين الفعل والذات، فمرة تكون صفة ذات، ومرة تكون صفة فعل، وهي الكلام، فالقول مشترك بين هذا وهذا، وذكر أنه جل وعلا في الحديث ينادي آدم، والمناداة من أدل الدلائل على إثبات الكلام لله جل وعلا، ووجه كون هذه الصفة صفة ذات: أنه جل وعلا لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات منفياً عنه الكلام؛ لأن الكلام صفة كمال، ولا يمكن أن يكون جل وعلا خالياً من الكمال.
ووجه كونها صفة فعل: أن الكلام يتعلق بمشيئته، يعني: لا يكون دائماً متكلماً، وإنما يتكلم إذا شاء بالشيء الذي يشاؤه، ومراد المؤلف بهذا الرد على أهل البدع؛ لكونه نص في هذا الحديث بقوله:(يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك) ، وذلك أنهم قالوا: إن الكلام ينقسم إلى قسمين: كلام لفظي حرفي، وكلام معنوي نفسي، أما الكلام الذي هو بالحرف واللفظ فلا يختلف أهل البدع في أن الله لا يوصف به، فالأشاعرة والكلابية وأصلهم المعتزلة والجهمية وغيرهم من الفرق الضالة متفقون على هذا، فكلهم نفوا هذه الصفة التي هي صفة كمال، فنص الشيخ رحمه الله على هذا الحديث؛ لأن فيه دلالة ظاهرة على إبطال هذا الزعم وهذا القول؛ لأن النداء والقول لا يمكن أن يقال: إنه بالنفس، أو إنه معنى مستحيل، وإذا تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام فكلامه هو الهدى، وفيه الشفاء، وهو واضح جلي، فاكتفى بهذه الإشارة في الرد عليهم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأوجه الواضحة الجلية في إبطال هذا المذهب الباطل، والفطر تبطله، والشرع والعقل يبطله، بل إجماع الرسل والأمم المؤمنة كلها على خلافه، وذكرنا من الأوجه السابقة: أن الله جل وعلا يتحدى الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال تعالى: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:٨٨] ، ولو كانوا متساعدين ومتعاونين لا يمكن أن يأتوا بمثله، فهل الله يتحدى الخلق بأن يأتوا بشيء في نفسه؟! تعالى الله وتقدس! وهم يجعلون هذا القرآن الملفوظ به المسموع المتكلم به عبارة عن كلام الله، ومعلوم أن العبارة تحتاج إلى معبر، فمن المعبر عندهم؟ لا يخرج المعبر عن شيئين: إما أن يكون الرسول الملكي أو الرسول البشري، وبهذا يتفقون مع إخوانهم بل مع أساتذتهم المعتزلة أن القرآن مخلوق، وهذا كفر بالله جل وعلا، وقد ذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هؤلاء ما يقرب من تسعين وجهاً، كل وجه من الأوجه يكفي في إبطال هذا المذهب الباطل، وذلك في كتابه الذي يسمى التسعينيات، ومن المعلوم أن الله جل وعلا ذم الكافر الوحيد الذي {فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:١٨-٢٣] .
ثم بعد هذه الأمور التي وقعت له من الاجتهاد يأتي بقول يمكن أن يرضاه بعض من لا يطلع على الحقائق، ويلتبس عليه الأمر فقال:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:٢٥] ، يعني: إن هذا الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قول البشر، فقال الله جل وعلا متوعداً له:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:٢٦] ، فهذا الوعيد في الواقع يستحقه هؤلاء الذين يقولون: إنه قول الملك أو قول البشر، وزعموا أن لهم دليلاً على هذا، وهو قول الله جل وعلا:{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}[الحاقة:٣٨-٤٠] ، قالوا: أضافه إليه مما يدل على أنه يقوله، وهكذا أهل الباطل يتمسكون بالأمور المشتبهة الملتبسة على بعض الناس، ويفرحون بمثلها كما وصفهم الله جل وعلا:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}[آل عمران:٧] ، هذا شأنهم، ويقال لهم: إنه أضيف إليه؛ لأنه هو الذي يبلغه، وما جاء به شيطان أو كذاب، بل جاء به رسول من عند الله، فأضيف إليه لأنه هو الذي كلف ببلاغه؛ ولهذا جعل في هذه الآية قولاً للرسول البشري صلوات الله وسلامه عليه، وفي الآية الأخرى أضيف إلى الرسول الملكي:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:١٩-٢٠] وهذا هو جبريل عليه السلام، فدل على أنه أضافه إليه؛ لأنه جاء به من الله فبلغه، فالرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري صلوات الله وسلامه عليهما، والكلام في الحقيقة مضاف إلى من قاله مبتدئاً منشئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، فهاتان هما الآيتان اللتان تمسك بهما هؤلاء المبطلون، وتركوا الآيات الواضحة التي يقول جل وعلا فيها:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}[السجدة:١٣] وما أشبهها كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّه}[الزمر:١] ، فكثير جداً تأتي آيات واضحة جلية لا تحتمل التأويل، وكقوله:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}[التوبة:٦] ومن المعلوم أنه يسمعه ممن يبلغه سواء كان الرسول أو غير الرسول، وأخبر جل وعلا أنه خص موسى بالكلام:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء:١٦٤] ، وهذه آيات واضحة جداً ما فيها إشكال، وقد حذرنا الله جل وعلا من الذين يتركون الواضح الجلي، ويتمسكون بما هو مشتبه، ومعلوم أن الذي فيه اشتباه يجب أن يرد إلى المحكم الواضح الجلي، فيتفق هذا مع هذا، ويصبح ليس هناك أي اشتباه، وهذا هو شأن طالب الحق، أما الذي في قلبه مرض وانحراف فيمكن أن يستدل على الكفر الصريح بشيء من القرآن كما استدل النصارى على التثليث لقوله جل وعلا:(إنا ونحن) وما أشبه ذلك مما هو في القرآن، ومعلوم أن هذا باطل، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي أن عقيدة المسلم أن كلام الله حق، وأنه لا يدل على الباطل، وكذلك قول الرسول، فإذا جاء مبطل يستدل على باطله بشيء من كلام الله أو من كلام رسوله فنجزم جزماً أن ذلك ليس معنى كلام الله، وإنما هو تحريف وتأويل الكلام بما يوافق الأهواء ابتغاء الفتنة.
والشيخ رحمه الله ذكر هذا الحديث:(يقول الله: يا آدم!) ، فذكر النداء الذي يدل على رفع الصوت، فلابد أن يكون النداء بحرف وصوت، كما أن الكلام لا يعقل إلا بذلك، واكتفى بهذا الحديث، وإلا فالأحاديث في هذا كثيرة.