وقوله:(كلام الله منزل غير مخلوق) منزل يعني: أن الله أنزله بعد أن تكلم به حقيقة فسمعه جبريل وتلقاه عنه، فجاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فألقاه عليه، فسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، والصحابة سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صارت الأمة تسمعه بعضها من بعض، فإذا قرأ القارئ القرآن فإن السامع يسمع كلام الله، ولكن الأدوات التي يؤدى بها: كحركة اللسان والشفتين والصوت -صوت القارئ- كل هذه مخلوقة، ولكن المصوت به المقروء الذي حرك به اللسان وحركت به الشفتان هو قول الله، ولا يجوز أن يقال: إنه مخلوق.
وكذلك في الكتابة: فالورق والحبر شيء مخلوق، ولكن المكتوب المودع في المصحف هو كلام الله، ولهذا يجب احترامه، ولا يجوز للجنب أو الحائض أن تقرأه؛ لأنه كلام الله، فكلام الله سواءً حفظ أو كتب في المصاحف لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الله، ومعلوم أن الكلام له وضع غير وضع الأجسام؛ لأن الكلام صفة وهو لا يقوم إلا بالموصوف، فإذا تكلم به ثم حفظ عنه أو سجل أو كتب فإنه يبقى كلامه، وهذا شيء معقول حتى في كلام المخلوقين، فلو أن إنساناً مثلاً قال: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ألخ لقيل: هذا قول امرئ القيس، ولو أن إنساناً ذكر هذا الكلام:(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) لقيل: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سُمع قارئ يقرأ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:٢-٤] لقيل: هذا كلام رب العالمين هذا كلام الله، فالقول والكلام يضاف لمن قاله مبتدئاً وليس للمؤدي أو الراوي أو الناقل فليس لهؤلاء إلا الرواية والنقل.
وقد اختلف المتكلمون في هذا خلافاً كبيراً جداً، ولكن هذا هو الحق الذي يجب اعتقاده، ومعلوم أن الجهمية يقولون: إن القرآن مخلوق وكذلك المعتزلة، ولكن ينبغي أن يعلم أن المعتزلة يصفون الله جل وعلا بأنه متكلم ويقولون: إن الله يتكلم ومقصودهم: أنه يخلق الكلام في مكان، ويكون متكلماً بمعنى: أنه يخلق الكلام، وهذا من أبطل الباطل أن يوصف بشيء ليس من صفاته، ولو كان الأمر هكذا لاقتضى أن يوصف بأنه الآكل الشارب تعالى الله وتقدس؛ لأنه يخلق الأكل والشرب في الآكلين والشاربين، وإنما الصفة تكون لمن صدرت منه ولمن لزمته.
والكلام صفة فعل وقد يكون صفة ذات، وصفات الأفعال تتعلق بالمشيئة بحيث أنه إذا شاء فعلها وإذا لم يشأ فعلها لم يفعلها، فهي متعلقة بمشيئته، وهذا من الكمال، فالكلام والنزول والاستواء والخلق والرزق وغير ذلك من أفعاله يسميها المتكلمون حوادث ثم ينفونها عن الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.