ومن العلماء من قسم القرب إلى قسمين: كـ ابن القيم رحمه الله فجعله قرباً عاماً وقرباً خاصاً: القرب العام هو معنى اسمه الباطن؛ لأنه جاء في تفسيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) فجعل البطون: القرب، وقال: هذا عام، فيكون ذلك قريب المعنى من المعية العامة؛ لأنه قربه من خلقه عام، ويكون معنى أنه الباطن: مثل ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس دونك شيء) يعني: أنه قريب من خلقه إذا شاء أن يعمل فيهم ما يشاء فهم بقبضته ولا يحول بينه وبينهم حائل، وهذا المعنى العام.
والثاني: ما جاء في القرآن وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه قريب من الداعي وقريب من السائل، فهو قريب من الداعي بالإجابة كما قال:(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي) وليس هذا على إطلاقه فإن كل مسألة وكل دعوة تجاب إذا شاء الله فهي داخلة في مشيئته، ولكن هذا من العبادة التي يحث الله جل وعلا عليها، وإذا وجدت الشروط التي يجب أن تكون في الداعي وانتفت الموانع فإن الله جل وعلا يجيبه، والمقصود: وصف الله بذلك.
ولكن كونه يقسم هذا التقسيم فقد يتوهم بعض الناس أنه يقسم القرب نفسه إلى قسمين، والصواب أن هذه صفة وهذه صفة: فصفة الباطن غير صفة القريب؛ لأن القرب جاء مقيداً بكونه قريباً من الداعي، أما كونه قريباً من قبض الروح، أو التصرف فيه بما يشاء فهو من معنى البطون، فقوله:(الباطن) هو معنى المعية العامة (هو معكم) .
ومعلوم أن معاني كتاب الله لا تتنافر ولا تتفاوت، وكذلك المعاني التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه يجب على العبد أن يتفقه فيها وأن يعرفها على مراد المتكلم؛ لئلا يقع في الزلل ويقع في الضلال ويكون ذلك زيادة قرب له من الله جل وعلا، وهذا من أفضل ما يتعلمه الإنسان ويبحث عنه جهده طالباً الحق مخلصاً لله جل وعلا في ذلك فإنه إذا كان بهذه الصفة فإن الله جل وعلا يوفقه.
ثم قال:(وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) هذا لا يخرج عما ذكر في الآية؛ لأن هذا في الدعاء والداعي، ولا يكون هذا من النوع العام بل هذا من الخاص؛ لأنه لما كان الصحابة رضوان الله عليهم يرفعون أصواتهم بالذكر أو بالتكبير أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بأنفسهم فقال:(أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فكان مثل قوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي) .