والاعتبار الثاني: باعتبار ما كان. وبهذا التقرير يزول الإشكال الذي يرد على النفس، ويورده كثير من الناس، في مثل قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمد: ٣١]. فيقول: أليس الله عزّ وجل قد علم المجاهدين والصابرين من غيرهم في الأزل؟ فالجواب: بلى؛ لكن علمه في الأزل علم بما سيكون، وعلمه بعد كون الشيء علم به كائنًا، وفرق بين الأمرين. هذا من وجه.
ومن وجه آخر: أن علمه الأزلي لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، وعلمه بالشيء بعد كونه هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب؛ فيكون معنى:{حَتَّى نَعْلَمَ} أي: علمًا يترتب عليه الثواب والعقاب.
{يَعْلَمُ}: بالرفع على الاستئناف؛ والتقدير: وهو يعلمُ. ولا يجوز في مثل هذا الجزمُ عطفًا على {يَعْلَمْهُ اللَّهُ}، بخلاف قوله تعالى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ}[البقرة: ٢٨٤] , فإنه يجوز، (فيغفرْ) لمن يشاء، ويجوز:(فيغْفِرُ)، ويجوز (فيغفرَ)، ثلاثة أوجه. لكن في هذه الآية لا يجوز سوى الرفع؛ لأننا لو جعلناه بالجزم، صار علم الله بما في السموات وما في الأرض مقيدًا بقوله:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} , لأن المعطوف على جواب الشرط له حكم جواب الشرط، وجواب الشرط معلق بفعل الشرط. وعلى هذا فيتعين في قوله:{وَيَعْلَمُ} الاستئناف والرفع، ولا يجوز الجزم.