للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا}، "من" يحتمل أن تكون لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبعيض. والفرق بينهما: أننا إذا جعلناها لبيان الجنس شمل المدح مَنْ تصدق بجميع ماله، وإذا جعلناها للتبعيض صار مختصًا بمن تصدق ببعض ماله. ويمكن أن نقول إنها صالحة للأمرين، فأحيانًا يكون التصدق ببعض المال أفضل من التصدق بكله، وأحيانًا يكون العكس.

وقوله: {مِمَّا تُحِبُّونَ} أي من المال؛ لأن الله تعالى قال: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: ٢٠]، ولكن كلما كان المال أحب كان إنفاقه أقوى إيمانًا، وأدل على محبة الإنسان للخير؛ لأن الشيء الذي تكون الرغبة فيه قليلة يسهل على الإنسان أن ينفقه، لكن الشيء الذي تتعلق به النفس كثيرًا هو الذي تشح النفس في إنفاقه، فإذا أنفقه الإنسان مع قوة تعلق نفسه به كان ذلك دليلًا عَلى قوة إيمانه؛ لأنه لا يدفع القوي إلا بما هو أقوى منه.

لما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة - رضي الله عنه -، فجاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب مالي إلي "بيرحاء"، وكانت نخلًا مستقبلة المسجد، يعني قريبة من مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيها ماء عذب طيب، يأتي إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشرب منه ويتطهر به، وهذا مما يزيده رغبة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأتي إليه ويشرب منه، ويتطهر به، قال: فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح"، ثم قال: "أرى أن تجعلها في الأقربين" (١). فجعلها أبو طلحة في أقاربه،


(١) رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل =

<<  <  ج: ص:  >  >>