أنيس به إلا بيت معتنز، بفنائه أعنز، وقد ظمئت فيمّمته فسلّمت فإذا عجوز قد برزت كأنّها نعامة راخم، فقلت: هل من ماء؟ فقالت: أو لبن؟ فقلت: ما كانت بغيتي إلا الماء فإذا يسّر الله اللبن فإني إليه فقير. فقامت إلى قعب فأفرغت فيه ماء ونظّفته وغسلته، ثم جاءت إلى الأعنز فتغبّرتهنّ حتى احتلبت قراب ملء القعب ثم أفرغت عليه ماء حتى رغا وطفت ثمالته كأنها غمامة بيضاء، ثم ناولتني إياه فشربت حتى تحببت ريّا واطمأننت فقلت: إني أراك معتنزة في هذا الوادي الموحش، والحلّة منك قريب، فلو انضممت إلى خبائهم فأنست بهم، قالت: يا ابن أخي، إني لآنس بالوحشة وأستريح إلى الوحدة، ويطمئنّ قلبي إلى هذا الوادي الموحش، فأتذكر من عهدت، فكأني أخاطب أعيانهم، وأتراءى أشباحهم، وتتخيّل إليّ أندية رجالهم، وملاعب ولدانهم، ومندّى أموالهم. والله يا ابن أخي لقد رأيت هذا الوادي بشع اللديدين بأهل أدواح وقباب، ونعم كالهضاب، وخيل كالذئاب، وفتيان كالرماح، يبارون الرياح، ويحمون الصباح، فأحال عليهم الجلاء قما بغرفة، فأصبحت الآثار دارسة، والمحالّ طامسة، وكذلك سيرة الدهر في من وثق به. ثم قالت: ارم بعينيك في هذا الملأ المتباطن، فنظرت فإذا قبور نحو من أربعين أو خمسين؛ فقالت: أترى تلك الأجداث؟ قلت: نعم. قالت: ما انطوت إلا على أخ أو ابن أخ أو عمّ أو ابن عمّ، فأصبحوا قد ألمأت عليهم الأرض، وأنا أنتظر ما غالهم. انصرف راشدا يرحمك الله.
الغريب:- المعتنز: المنفرد، والراخم: التي تحضن بيضها، وتغبرتهن:
احتلبت الغبر وهو بقية اللبن في الضرع وجمعه أغبار، وقراب وقريب واحد مثل كبار وكبير، والثمالة: الرغوة، وتحببت: امتلأت، والمندّى: المكان الذي يندّى فيه المال، وبشع: ملآن، واللديدان: الجانبان، وقما: كنسا، والقمامة:
الكناسة والمقمّة: المكنسة، والغرفة: الواحدة من الغرف وهو ضرب من الشجر، والمتباطن: المتطامن، وألمأت عليهم: احتوت عليهم، وتلمأت عليه