فاجتباهما الملك ونزلا منه بالمكان الأثير، فحسدهما زهير بن جناب فقال:
أيها الملك، هما والله عين لذي القرنين عليك- يعني المنذر الأكبر جدّ النعمان بن المنذر- وهما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك. قال:
كلّا. فلم يزل زهير به حتى أوغر صدره. وكان إذا ركب بعث إليهما ببعيرين يركبان معه، فبعث إليهما بناقة واحدة، فعرفا الشّرّ فلم يركب أحدهما وتوقّف، فقال له الآخر:[من الطويل]
فإلّا تجلّلها يعالوك فوقها ... وكيف توقّى ظهر ما أنت راكبه
فركبها مع أخيه ومضى بهما فقتلا، ثم إنّ الملك بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلا، فشتم زهيرا وطرده، فانصرف إلى بلاد قومه. وقدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك، وكان شيخا مجرّبا عالما، فأكرمه الملك وأعطاه دية ابنيه.
وبلغ زهيرا مكانه، فدعا ابنا له يقال له عامر، وكان من فتيان العرب لسانا وبيانا، فقال له: إنّ رزاحا قدم على الملك، فالحق به، فاحتل في أن تكفينيه.
وقال: إذممني عند الملك ونل منّي، وأثّر به آثارا. فخرج الغلام حتى قدم الشام فتلطّف في الدّخول على الملك حتى وصل إليه، وأعجبه ما رأى منه، فقال له:
من أنت؟ فقال: أنا عامر بن زهير بن جناب. قال: فلا حيّاك الله ولا حيّا أباك الغادر الكذوب الساعي. فقال الغلام: نعم، فلا حيّاه الله، أنظر أيها الملك ما صنع بظهري، وأراه آثار الضرب. فقبل ذلك منه وأدخله في ندمائه. فبينا هو يوما يحدّثه إذ قال: أيها الملك لست أدع أن أقول الحقّ، وقد والله نصحك أبي، ثم أنشأ يقول:[من الوافر]
فيا لك نصحة لمّا تذقها ... أراها نصحة ذهبت ضلالا
ثم تركه أياما وقال له بعد ذلك: ما تقول أيّها الملك في حيّة قد قطعت ذنبها وبقي رأسها؟ قال: ذاك أبوك وصنيعه بالرجلين ما صنع. قال: أبيت اللعن! فو الله ما قدم رزاح إلا ليثأر بهما. فقال له: وما آية ذلك؟ قال: اسقه الخمر،