أعلمه أنّ الفرزدق أشرف منه وأشعر، قلنا له: ويحك، لا تعرض له فانصرف.
وخرج جرير، فلم يك بأسرع من أن أقبل الأحوص، فوقف عليه فقال: السلام عليك، فقال جرير: وعليك السلام، فقال: يا ابن الخطفى، الفرزدق أشرف منك وأشعر، قال جرير: من هذا أخزاه الله! قلنا: الأحوص بن محمد بن عبد الله ابن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقال: نعم، هذا الخبيث ابن الطيّب، أنت القائل:[من الطويل]
يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها ... وأحسن شيء ما به العين قرّت
فقال: نعم، قال: فإنّه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقرّ ذاك بعينك؟ وكان الأحوص يرمى بالحلاق، فانصرف فبعث إليه بتمر وفاكهة.
وأقبلنا على جرير نسأله وأشعب عند الباب وجرير في مؤخّر البيت، فألحّ عليه أشعب يسأله، فقال: والله إني لأراك أقبحهم وجها، وأراك ألأمهم حسبا، قد أبرمتني منذ اليوم، فقال: إني والله أنفعهم وخيرهم لك، فاتبه جرير وقال:
ويحك، وكيف ذاك؟ قال: إني أملّح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه، قال: قل، ويحك! فاندفع أشعب فتغنّى بلحن لابن سريج في شعره:[من الكامل]
يا أخت ناجية السلام عليكم ... قبل الرحيل وقبل لوم العذّل
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم يفعل
فطرب جرير وجعل يزحف حتى مسّت ركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت، إنّك لأنفعهم لي، وقد حسّنته [وأجدته] وزيّنته، أحسنت والله! ووصله وكساه. فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء؟ قال: وإنّ له لواضعا غير هذا؟ قلنا:
نعم، قال: وأين هو؟ قلنا: بمكّة، قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه.
فمضى ومضى معه جماعة ممّن يرغب في طلب الشّعر في صحابته وكنت فيهم.
فقدمنا مكّة فأتيناه بأجمعنا فإذا هو في فتية من قريش كأنّهم المها مع ظرف كثير،