وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدك بي في حال تعاشر أهل الدنيا، فظننت أنّها بعض حماقاته، فانصرفت فما لقيته زمانا. ثم تشوّقته فأتيته فاستأذنت عليه، فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرّتين فثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب أخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسيت كلّ ما كان عندي من الغمّ عليه والوحشة لعشرته، وضحكت ضحكا ما ضحكت مثله قطّ. فقال: من أيّ شيء تضحك لا ضحكت! فقلت: سخنت عينك! هذا أيّ شيء هو؟ ومن بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء أو الزّهاد أو الصحابة أو المجانين؟
انزع هذا عنك يا سخين العين! فكأنّه استحيا منّي. ثم بلغني أنه جلس حجّاما، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره. ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنّيه، فأتيت عائدا، فخرج إليّ رسوله يقول: إن دخلت إليّ جدّدت لي حزنا وتاقت نفسي إلى سماعك وإلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به.
«٦٥٥» - قيل لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنّيني: [من الطويل]
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر مدّتي ... فإنّ غناء الباكيات قليل
«٦٥٦» - طلّق أعرابي امرأته فتزوّجها الأخطل، وكان الأخطل قبل ذلك قد طلّق امرأته الأولى، فتنفّست، فقال الأخطل:[من الطويل]
كلانا على همّ يبيت كأنّما ... بجنبيه من مسّ الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح وإنّني ... على زوحتي الأخرى لذاك أنوح