الغث والسمين والمعرفة والنكرة» موهما بمناقضته لقول غيره: أحسن فيه أو أجاد فيه، ولكن لا تناقض هنالك، والأمر في ذلك نسبي، بحسب الزاوية التي ينظر الناظر منها إلى ذلك الكتاب؛ وابن حمدون لم يزعم أنه يجمع- في كل الأحوال- أجود المختارات من الشعر والنثر، وإنما كان يقيد ما يظنه متصل المعنى بالباب الذي يعقده، وإن قال في مقدمته:«ونظمت فيه فريد النثر ودرره، وضمنته مختار النظم ومحبره، وأودعته غرر البلاغة وعيونها، وأبكار القرائح وعونها، وبدائع الحكم وفنونها، وغرائب الأحاديث وشجونها» ، فهذا يعني أن الكتاب يحتوي من ذلك الكثير، ولكنه لا ينفي أن المخشلبة قد تقع أحيانا إلى جانب الدرة لتظهر الأولى مدى تفرد الثانية.
وربما لمس المرء في مقدمة التذكرة أن ابن حمدون كان يعاني نوعا من العزلة حين أخذ في جمع مادتها، مؤثرا عشرة الكتب على عشرة الآدميين، فهو يقول إنه أخذ في وضع كتابه حين «فسد الزمان وخان الاخوان، وأوحش الأنيس، وخيف الجليس، وصار مكروه العزلة مندوبا، ومأثور الخلطة محذورا» ، وكانت غايته من وراء ذلك- بعد التسلية الذاتية- أن يقدم للناس أمثالا وحكما وحكايات وأخبارا ونوادر، لعلهم يجدون في كل ذلك الترويح والمتعة والعبرة والتأدب والتثقف.
ولفظة «التذكرة» أقرب إلى أن تدل على مقيدات مرسلة لا يضبطها ضابط، تقف فيها الموعظة إلى جانب النادرة، إلى جانب الفائدة العلمية، إلى جانب التجربة الذاتية، ولكن ابن حمدون شاء لتذكرته التبويب، فقسمها في خمسين بابا وجعل كلّ باب يحتوي على فصول، فاخضاع التذكرة لهذا التنظيم الواعي قد جعل لها منهجا ومخططا شأنها شأن معظم كتب «الأدب» من أمثال عيون الأخبار والعقد الفريد ونثر الدرّ وبهجة المجالس ولباب الآداب ومحاضرات الراغب وربيع الأبرار والمستطرف؛ فكلها قائم على التقسيم إلى فصول، ولكنها تتفاوت فيما بينها في شيئين: في طبيعة ما تركّز عليه من توجّه، كالتوجّه الأخلاقي أو الأدبي مثلا، وفي طبيعة ما تنفرد به رجاء الخروج من دائرة النقل