للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأمرين أن يكون ذلك عن قدرة لا عن عجز، أما عن العجز فإنه مذمة، ولهذا قال الشاعر يذم قبيلته:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا

لماذا؟ لضعفهم وعجزهم ولهذا قال:

فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا

فالحاصل: أن قوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يعني الذين لا يؤاخذون الناس بما أساؤوا به إليهم، بل ربما يحسنون إليهم ولكن عن قدرة، أما العفو عن عجز فليس بعفو حقيقة، بل هو عجز لا يمدح عليه الإنسان.

وقوله: {عَنِ النَّاسِ} عام، شامل، ولكنه ليس على عمومه بالاتفاق، فإن الإساءة إذا كانت في حق الله فهي لله وليس لأحد أن يعفو عنها، فلو زنا رجل بمحرم رجل وأراد أن يعفو عنه قلنا: لا يمكن، الحق ليس إليك، والله عزّ وجل يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: ٢] أما إذا كان حقًّا للإنسان ليس فيه شائبةُ حق لله فهذا يُنظر فيه، أي ليس على عمومه بل ينظر فيه، إن اقتضت المصلحة العفو فالعفو خير، وإن اقتضت المصلحة المؤاخذة فالمؤاخذة خير. وإن لم تقتضِ لا هذا ولا هذا بأن تساوى الأمران فالعفو خير؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: ٢٣٧] والدليل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: ٤٠] فَعُلِم منه أن من عفا بدون إصلاح فلا أجر له، بل قد يأثم على عفوه، مثال ذلك: رجل اعتدى عليه شخص شرير،

<<  <  ج: ص:  >  >>